غضبت حكومة تل أبيب أشد الغضب من وزير الخارجية الأمريكية «جون كيرى»، وأعلنتها حربا إعلامية شرسة عليه ووصفته بالوسيط غير النزيه لأنه نطق صدقًا، وحذر من انفجار انتفاضة فلسطينية ثالثة إذا لم يتحقق تقدم ملموس فى المحادثات مع السلطة الفلسطينية. الانتفاضة الفلسطينية الثالثة يتنبأ المراقبون لحالة جهود المفاوضات باندلاعها العام القادم. وكما يقول المثل إن الثالثة تابتة، فلن تكون انتفاضة حجارة، أو زجاجات حارقة أو قتل جندى أو مستوطن أو حركة تمرد يمكن القضاء عليها بسهولة. بل ستكون حربًا شاملة، طويلة متواصلة فى قلب إسرائيل، ستكون حرب شوارع تقوض نظرية الجيش الإسرائيلى العصرى الذى يتغلب على الخصم بحرب خاطفة حاسمة. رئيس الحكومة «نتنياهو» لا يختلف موقفه التفاوضى مع السلطة الفلسطينية عمن سبقوه من زعماء «الليكود»، ولا فرق بينه وبين شارون، أو «باراك» أو «أولمرت» جميعهم يريدون استمرار احتلال الأراضى العربية فى الضفة الغربيةوالقدس والجولان. وتكثيف البناء الاستيطانى بها. وأزمة حرب التصريحات الهجومية التى أدارها نتنياهو على الإدارة الأمريكية قبل توقيع الاتفاق الدولى بشأن برنامج إيران النووى كانت تهدف إرجاءه إلى أجل غير مسمى، وذلك تحسبا للاستحقاقات الملزمة بتقديمها فى اليوم الثانى لإنهاء أزمة البرنامج النووى الإيرانى. فالقوى العظمى تتوجه أنظارها وجهودها للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التى تدور حول نفسها منذ قرنين من الزمن. ستطالب الحكومة الإسرائيلية بتحقيق تقدم ملموس فيها، عند تلك المرحلة ستنهار الحكومة الائتلافية فى اللحظة التى تتقدم فيها المحادثات ولو بوعد بإزالة مستعمرة من الضفة الغربية. وبوادر الانتفاضة الفلسطينية الثالثة ظاهرة للعيان، فالطرف الفلسطينى دخل عملية التفاوض على أمل أن تتقدم على أساس القانون الدولى، وقرارات الأممالمتحدة ومجلس الأمن ومبدأ الأرض مقابل السلام الذى بنيت عليه هذه القرارات، ووقعت الاتفاقيات، أوسلو 1993، والخليل 1996، لكن الحكومة الإسرائيلية المتعاقبة لن تحترم القانون الدولى وسارت على نهج «إسحاق رابين» مخترع سياسة تحطيم عظام أطفال وشباب الانتفاضة الأولى، ومن أخذت عنه مقولة: «لا توجد مواعيد مقدسة» فى المفاوضات أو الجلاء عن الأراضى المحتلة فى الضفة الغربية. ولم تتقدم المفاوضات منذ اغتيال إسحاق رابين عام 1996، مازالت قوات الجيش الإسرائيلية تسيطر سيطرة كاملة على الأراضى، وحركة تنقل المواطنين الفلسطينيين، منذ ذلك التاريخ أحكمت إسرائيل قبضتها على القدسالشرقية وواصلت عملية مصادرة الأراضى فيها، ووطنت مائتى ألف مستعمر يهودى فى القدسالشرقية وفى المناطق المحيطة بها، وتم تجميع الفلسطينيين للعيش فى «كنتونات» محاطة بالجدار العازل، ومسيطر على مداخلها من قبل قوات الجيش الإسرائيلى، وأنشئ العديد من المستعمرات فى الضفة الغربية يقيم فيها أكثر من نصف مليون إسرائيلى. وبالعودة إلى أسباب اندلاع الانتفاضة الأولى والثانية يظهر تشابها كبير مع نذر الانتفاضة الثالثة، فالذى يجمع بينهم، وما سيكون وقودها هو خليط غضب من إجراءات القمع الاحتلالية، والإحباط الوطنى، والضائقة الاقتصادية لزيادة تكاليف المعيشة، وظروف الحياة اللا آدمية التى يعيش فيها الفلسطينيون فى كانتونات الضفة الغربية. فشرارة اندلاع الانتفاضة الأولى فى ديسمبر عام 1987 كانت جريمة وحشية ارتكبها سائق شاحنة إسرائيلى، قام عامدا متعمدا باعتلاء سيارة متوقفة فى محطة وقود يستقلها عمال فلسطينيون، ووقع الحادث عند حاجز «بيت حانون» - «إيرز» الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل. وأثناء تشييع جنازة الشهداء اندلع احتجاج عضوى، ردت عليه قوات الاحتلال بوابل من الرصاص، وسقط العشرات من الشهداء. والانتفاضة الثانية فى أكتوبر عام 2000م كانت من مخزون أكبر من أسباب الأولى، والشلل التام فى عملية المحادثات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، وفجرتها الجولة الاستفزازية التى تعمد زعيم المعارضة «شارون» القيام بها فى ساحة الحرم المقدسى الشريف. الانتفاضة الثالثة لا يمكن تصور سبب انفجارها، ولا التنبؤ بمن سيفجرها، ويمكن فقط رصد أحداث الأسابيع القليلة الماضية وهى قتل أربعة من الإسرائيليين، وهو لم يحدث من قبل أن قتل هذا العدد خلال تلك الفترة القصيرة. والتقديرات الأمنية العسكرية متباينة بشأنها. فالمدير السابق لجهاز الأمن العام الداخلى «يفال ديسكن» يرى أن الاوضاع السيئة التى يعيشها الفلسطينيون حاليًا تنبئ باندلاع انتفاضة ثالثة. بينما يهون رئيس أركان الجيش «بينى جانتز» من تأثير الحوادث الأخيرة، ويرى أنها ليست تحولا أمنيا خطيرًا، وقال وزير الدفاع «موشيه يعالون» إن من الخطأ اعتبار هذه الهجمات جزءًا من استراتيجية جديدة، وأنها تمت بدوافع فردية ليس وراءها منظمات جهادية أو فتحاوية أو حمساوية. وخطة تعامل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية مع الانتفاضة الثالثة فى حال انفجارها قائمة على عقيدة سحق إرادة المتمردين الذين يعتقدون فى إمكانية الحصول على الحقوق بالمظاهرات بعد فشل المفاوضات. فقيادة المنطقة الوسطى فى الجيش أنهت فى منتصف العام الجارى تدريبات ومناورات لتحركاتها إذا اندلعت الانتفاضة، ستقوم بتعميم سياسة العقوبات الجماعية، والضرب فى المليان للقتل، وحملات اعتقال جماعى، وإغلاق المساجد والجامعات والكليات والمدارس، وتحويل بعضها لمعسكرات للجيش، بالإضافة إلى فتح سجون جديدة. ووضعت خطة التعامل العسكرى مع الانتفاضة الثالثة على فرضية أخرى وهى انتشارها على نطاق واسع يشارك فيه معظم المواطنين الفلسطينيين فى الضفة الغربية. وتكون قاعدتها الدينية فى المناطق المعروفة «بالمنطقة ب»، وتشمل نسبة 22% من أراضى الضفة الغربية مازالت القوات الإسرائيلية تفرض سيطرتها الأمنية عليها، وأسندت للسلطة الفلسطينية الصلاحيات المتعلقة بالمسائل المدنية فيها، ويقيم بها آلاف المستوطنين تحت حماية القوات العسكرية الإسرائيلية. إذا سيواجه الجيش الإسرائيلى وضعًا بالغ التعقيد، حيث سيدخل فى حرب شوارع ستستنزف قواه، وستنتقل دول العالم من خانة مواقف التردد والتأييد الأعمى لإسرائيل إلى خانة نزع الشرعية عنها، وفرض العزلة والمقاطعة عليها، وتلك احتمالات واقعية مصدرها التعنت الإسرائيلى. أما تحذيرات جون كيرى التى أغضبت الحكومة الإسرائيلية فجاءت فى مقابلة مع القناة الثانية فى التليفزيون الإسرائيلى، حيث قال: «إذا لم تحل القضايا بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وإذا لم نجد الطريق إلى السلام، وإذا لم يتم التوصل إلى حل بشأن المستوطنات، وإذا لم نضع حدا للتواجد الدائم للجنود الإسرائيليين فى الضفة الغربية فيتعاظم الإحساس بأننا لا يمكننا أن نحقق سلاما مع قيادة ملتزمة بنبذ العنف، وفى النهاية سيجد الإسرائيليون أنفسهم أمام قيادة ملتزمة بالعنف، وأضاف أن المستوطنات من وجهة نظر الولاياتالمتحدة غير شرعية، وإذا استمرت إسرائيل فى بناء آلاف الوحدات السكنية فيها، فلن تبقى أرض يمكن إنشاء دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافى عليها». الآن الكرة فى ملعب الحكومة الإسرائيلية، والانتفاضة الفلسطينية الثالثة على الأبواب بكل تداعياتها المربكة على إسرائيل والمنطقة، وعلى السلطة الفلسطينية الاختيار إما التوجه لمجلس الأمن مدعومين بمطالب الشعب الفلسطينى، وإما استمرار الدوران فى دائرة المفاوضات العبثية الوهمية مع إسرائيل.