هذه مداخلة ثقافية خاصة من الأستاذ الدكتور عبد الحكيم راضى عضو مجمع اللغة العربية ورئيس تحرير سلسلة الذخائر الأسبق وأستاذ اللغة والبلاغة بآداب القاهرة. قادتنى المصادفة إلى قراءة مقال للدكتور خالد منتصر بجريدة (الوطن) عدد الاثنين 26/8/2013 بعنوان (يا وزير التعليم حافظوا على صحة المعرّى قبل أن تحفظوا شعره) خلاصته الاعتراض على رفع درجة اللغة العربيّة فى مجموع درجات مواد الثانوية العامة.. وحديثه يتجاوز مجرد الاعتراض إلى الهجوم الحاد على هذا الإجراء.. استناداً إلى أسباب تتشّح بالعلمية، وأخرى فيها طابع الادّعاء والهجوم، مع غياب أى سند علمى، والتغافل عن وقائع التاريخ والتصدى للفتوى مع افتقاد المؤهلات.. فى هذا المقال: 1- يرفض الكاتبُ أن تكون درجة اللغة العربية فى الثانوية العامة بالقسم العلمى سبعين درجة (70) – ويرى أنها درجة كبيرة.. أكبر من درجة علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء واللغة الأجنبية الأولى. 2- يرى أن هذا الرفع للدرجات والمبالغة فيه من ضمن ما تركته (الأخْوَنَةُ) فى وزارة التربية والتعليم، وهو ما لم يستطع الوزير الجديد الاقتراب منه خوفا من (الطابور الخامس) – كما يقول – داخل الوزارة والذى سيفسّر الانتقاص من درجات اللغة العربية بأنها انتقاص من لغة مقدسَّة، وهى– كما يقول- عادة إخوانية فى الإفزاع بشعارات من هذا النوع لا تمت للواقع بصلة. 3- يرى أن هذه المبالغة الشكلية التى تحكم تعاملنا مع اللغة (جريمة)، تماثلها (جريمة) أخرى "كانوا سيقترفونها فى حق العلم، وهى تعريبه بدعوى الدفاع عن الهوية، مع أنهم هم أصحاب السبق فى مسخ الهوية". 4- يدفع عن نفسه سلفا ما قد يلحقه بسبب هذا الرأى – من تهمة التغريب والكُره للغتنا ، فيورد أسباب رفضه لما سمّاه مبالغة شكلية تحكم تعاملنا مع اللغة مثلما حكمت تعاملنا مع جميع الأشياء الأخرى. من هذه الأسباب : أولاً: أننا فى هذا الظرف الصعب نحتاج إلى ترسيخ المنهج العلمى فى التفكير، ومنح درجات أكبر للمواد العلميّة.. خاصة لطلبة القسم العلمى الذين ربما يكون انخراطُهم فيه هربا من عدم انسجامهم مع المواد الأدبيّة ومنها اللغة العربيّة – (يحترز ويقول: ( لايعنى هذا إهمال وإهانة لغتنا العربيّة على الإطلاق). ثانيًا: من الخطأ والجريمة فى حق أولادنا أن نجعل معيار دخولهم كلية الطبّ أو الصيدلة هو مدى إتقانهم للبلاغة، أو أن يتحدد مستقبل الطالب على نصف درجة فقدها نتيجة عدم معرفته للاستعارة المكنيّة أو الجناس الناقص، فيفشل فى الالتحاق بأمنيته وكليته المفضلة وحلمه المنتظر الذى سينبغ فيه. لأن فصيلا سياسيًا غبيا وخائنا وتاجرا للدين احتل الوطن ذات ليلة وفرض تصوّراته المتخلفة على مؤسسات الدولة وأخْوَن تعليمها. وهذا هو السبب السياسى – فى رأيه طبعا – وهو غير صحيح على الإطلاق، لما سوف نشرحه. أما السبب الآخر لثورته، وله – فيما يرى – وجهه العلمى، فهو أن "من الظلم والجوْر وعدم العدالة أن يُجعل معيار الالتحاق بالجامعة لِلُغَةٍ تصحيحها يخضع للمعايير الذاتية للمصحِّح ورأيه الخاص وذوقه اللغوى فى أحيان كثيرة، وعدم إدراكه أن الدرجة التى يخصمها من رصيد الطالب فى التعبير أو البلاغة– مثلا – ستبعده عن حلم كلية الطب، لأن سيادة المصحح غير معجب بصياغة تلك العبارة أو هذه الجملة مقال الدكتور منتصر يلمس – كما نرى - أبعادا ثلاثة، أحدها سياسى، وهو – للحقيقة – غير صحيح على الإطلاق، والثانى له واجهة علمية لكنه – فى رأيى- غير صحيح أيضا، وإن كان يقبل الجدل.. أما البعد الثالث والخطير حقا فهو البعد الاجتماعى. 1- يتمثل البعد السياسى فى القول بأن هذا القرار هو قرار إخوانى، جاء خطوة على طريق أخونة التعليم. 2- أما البعد العلمى فيتمثل فى رفض قيام وزارة التعليم برفع درجة اللغة العربية فى الثانوية العامة إلى سبعين درجة، كما يتمثل فى رفض السّعى إلى تعريب العلم. 3- ويتمثل البعد الاجتماعى الطبقى فيما رآه صاحب المقال من أنّ رفع درجة اللغة العربية فيه محاباة لطلاب المدارس الحكومية وإجحاف بطلاب مدارس اللغات وحاملى الشهادات الأجنبية، ويرى أن الشريحة الأولى هم من الفقراء، بينما تنتمى الشريحة الأخرى إلى طبقة الأغنياء. وكلامه فى هذا السياق أقرب إلى الكارثة.. إذ يحمل تفرقة اقتصادية واجتماعية تفضى إلى الاستقطاب بين شباب الوطن الواحد... فهناك الفقراء طلاب المدارس الحكومية الذين يسعدهم رفعُ درجة اللغة العربية فى مدارسهم، فى مقابل الأغنياء من طلاب الشهادات الأجنبية ومدارس اللغات الذين يضيرهم رفعُ درجات اللغة العربيّة بسبب تهميش درْسها فى مدارسهم - مدارس اللغات- إذْ تحمل زيادةُ درجات النجاح فى اللغة العربية– وفقا لهذا التصور – مجاملة للشريحة الأولى – طلاب مدارس الحكومة – على حساب الشريحة الثانية – طلاب مدارس اللغات. وهذه هى عبارات الدكتور منتصر: إن زيادة درجات اللغة العربية – التى يصفها ساخرا بأنها كرم حاتمى – تحمل تمييزا طبقيا مفجعا ومخجلا – كما يقول – يحابى الطلاب من فقراء مدارس الحكومة" فى مقابل طلاب الشهادات الأجنبية التى يلتحق بها أبناء الأغنياء والموسرين فقط" والتى "تتعامل مع اللغة العربيّة بهامشيّة، ولا تجلد طلابها بسوط اللغة العربيّة التى تأكل من (تورته) درجات فقراء مدارس الحكومة الكثير والكثير. والحقيقة أننى لا أدرى أين الفجيعة ولا أين الخجل هنا، أو فى أى ناحية يكون؟! فى ناحية المدارس الوطنية التى تحترم لغتها القوميّة فتقرّر دراستَها على المنتسبين إليها – ليس من أبناء الفقراء فقط وإنما من أبناء الموسرين المتميّزين الذين يحصلون على مجاميع فى الشهادة الإعدادية تؤهلهم لدخول المدارس الحكومية، على حين يذهب أصحاب المجاميع الضعيفة، خاصة من أبناء الأغنياء للحصول على الشهادات الأجنبية التى يتكلم عنها، والتى تتميز المقررات فيها – فعلا – بالنظر الهامشى إلى اللغة العربية، وهو خطأ جسيم تتحمل الدولة مسؤوليتَه. كما يتحمل مسؤوليتَه أصحاب هذه الدعوات من نوع ما يتحمس له الدكتور منتصر. بل إن الدولة ترتكب إثما عظيما حين تسمح لطلاب بعض الشهادات الأجنبية بالالتحاق بالجامعة مع رسوبهم فى اللغة العربيّة التى يظل النجاح فيها معلقا إلى أن يشارف الطالب على التخرج من الجامعة فيُعقد له (امتحان تكميلى) فى اللغة العربية على مستوى الثانوية العامة... وهذا نظام فيه ما فيه من الاستهتار باللغة القومية، وهو يحمل تناقضات ليس لها حصر. فليذكر لنا الدكتور خالد منتصر إن كان السماح بالالتحاق بالجامعة قبل النجاح فى اللغة العربيّة يحمل أى احترام لهذه اللغة أو اعتراف بها، أو تقدير لها. وليذكر لنا إن كان من الدول الأخرى التى يعرفها من تسمح للطلاب من أبنائها أو من غيرهم بالالتحاق بالجامعة دون النجاح فى اللغة الوطنية للدولة. إن كلام الدكتور منتصر يكاد ينطق بأن حل مشكلة طلاب القسم العلمى – خاصة طلاب المدارس الخاصة والشهادات الأجنبية – هو أن يقوم مصحح اللغة العربيّة بمنح الدرجات النهائية فى مادة اللغة العربية بكل فروعها لجميع الطلاب، دون تمييز بين مجتهد محبّ للمادةِ .. ومهملٍ كاره لها.. طالما أن الهدف النهائى هو الحصول على مجموع يُلحق صاحبه بالكلية التى يتمناها. وكأنّ اللغة العربيّة هى المادة الوحيدة التى يدرسها الطلاب، أو المادة الوحيدة التى يكتنفُها صعوبة الفهم، وأنها لهذا لا يمكن تدريس العلوم من خلالها.. وهذه كلها أفكار تقترب من الأوهام.. وتخضع لمؤثرات اجتماعية طبقية تُفضى إلى مغالطات خطيرة وغير قليلة. وأبدأ بتوضيح الحقيقة بالنسبة للنقطة – أو النقطتين الأخيرتين، مما يتصل بنسبة السعى إلى تعريب العلوم ورفع درجة اللغة العربيّة إلى الإخوان أو الفكر الإخوانى – فى سنة حكمهم طبعا- وأقول – صراحة- إن كل ذلك لا أساس له من الصحة، وإن رفع درجة اللغة العربية فى الثانوية العامة، والسعى إلى تعريب العلوم يأتى فى سياق العمل على تقوية مركز اللغة العربية فى مجتمعها وحثّ الطلاب على الاهتمام بها والتفوق فيها، وهذا هو الهدف من المطالبة بتعريب العلوم وتدريسها باللغة العربية ... أقول : إن هذا كلام قديم، والحديث فيه والمطالبة به يمتد إلى الوراء مدة طويلة.. قبل سنة الحكم الإخوانى بكثير، بل إنّ تعريب العلوم هو أَحَدُ – بل أهم- أهداف مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة منذ إنشائه فى ثلاثينيات القرن الماضى، وكذلك الأمر فى مجامع اللغة بالبلاد العربية، وقد اتخذ مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة قرارًا طالب فيه بإنشاء مركز خاصّ لتعريب العلوم. ولست أعرف من أين جاء بهذه التناقضات المزعومة التى ينضح بها كلامه، كالتناقض بين اللغة العربية والتفكير العلمى، والتناقض بين رفع درجتها وحصول الطالب على المجموع الذى يلحقه بالكلية التى يريدها، وكأن اللغة العربيّة هى المادة الوحيدة التى يدرسها الطالب فى مدارس اللغات؛ كما لا أدرى من أين جاء - فى حديثٍ موضوعه العلم وهدفه العلم – بهذه الطبقية البغيضة والاستقطاب المَقيت بين مدارس يدخلها الأغنياء تهمَّش فيها اللغة العربية، ومدارس يدخلها الفقراء تْدرس فيها هذه اللغة دراسة متعمقة.. أى بين أغنياء يترفَّعون عن معرفة لغتهم وفقراء يحبون لغتهم ويقبلون على دراستها والتفوق فيها. ربما يؤيّد الواقعُ بعضَ ما يقوله الدكتور منتصر، ولكن علينا أن نعترف بأنه واقع متخلّف ولا يجب التسليم به أو الاستسلام له.. هذا الواقع الذى يُنظر فيه إلى اللغة القومية هذه النظرة المريضة، وكأنه لم يسمع بما فعلته دولةٌ مجاورة مع لغتها التى كانت ميتة فأعادت إليها الحياة ودرّست علومها بها وأبدع أدباؤها فيها، فارتقوا بها، وارتقت بهم.. وكأنه لم يسمع عن علمائنا من الجيل الماضى الذين جمعوا بين التبحّر فى العلم بمختلف مجالاته والقراءة فيه بمختلف لغاته مع تملّك ناصية لغتهم العربية والاعتزاز بها، وكأنه لم يسمع عن على باشا إبراهيم ومحمد كامل حسين وأحمد عيسى وأبى شادى الروبى وعلى مصطفى مشرفة ومصطفى نظيف ومحمد يوسف حسن، وغيرهم من رجال العلم والطبّ والهندسة والجيولوجيا. لقد لعب الدكتور منتصر فى مقاله المشار إليه دوَر الطبيب الذى دُعِىَ للكشف على أحد المرضى، وبدلاً من أن يدرس الحالة ويقترح العلاج لمريضه.. فقد قرّر قتله والإجهاز عليه ظنا منه بأن التخلّصَ من المرض يكون بالقضاء على المريض وليس بالتعامل مع المرض ومحاولة التغلّب عليه.