تناولنا فى الجزأين الأول والثانى من هذا المقال والمنشورين فى مجلة أكتوبر - فى الأسبوعين الماضيين- ضرورة تحديد منهج علمى صحيح للبحث فى مشكلات القانون الدستورى وأهمية المنهجية Methodology / Méthodologie فى حل تلك المشكلات حتى لا تحدث أخطاء فادحة فى دراسة المُشكِلاتْ الدُسْتُورية وتَحْليلها وتأصِيلها ومنها مُشكِلَة وضع الدُسْتُور المعلق لسنة 2012 من قبل والمشكلة الحالية وهى وضع دستور آخر جديد لمصْر والذى يجرى إعداده حالياً . وقد انتهينا إلى أن كلمة «تعديلات» الواردة فى الإعلان الدستورى تتضمن التعديل الكلى لدستور سنة 2012 كما انتهينا إلى أنه يجب منهجياً قبل الحديث عن تعديل الدستور حسم مسألة أولية جوهرية سابقة على اقتراح أى تعديلات دستورية هي: هل يتم تعديل دستور 2012 أم يتم صياغة دستور جديد؟ وذلك لأن البداية الصحيحة لتعديل أو إعداد الدستور هى الالتزام بالمنهج الدستورى الصحيح ومراعاة المنطق القانونى والدستورى المعروف وهو أن الفصل فى المسائل الأولية يكون سابقا على الفصل فى المسائل الموضوعية، أى أنه قبل أن نتكلم عن تعديل الدستور يجب أن نحدد هل ما سوف يتم عمله هو تعديل للدستور أم إنشاء لدستور جديد؟ وقد استشهدنا على ضرورة وضع دستور جديد بالمنهج اللغوى وبالآيات القرآنية الآتية : الآية 2 من سورة الطلاق ؛ والآية 42 من سورة المائدة، والآية 152 من سورة الأنعام، والآية 123 من سورة البقرة ، والآية 70 من سورة الأنعام . كما استشهدنا بالحكمة العربية التى وردت فى كتب اللغة والحِكَمْ والأمثال العربية والتى تقول: «اتّسَعَ الَرَتْقُ (أى العيب الذى يحتاج إلى تعديل) عَلى الرَاقع (لجنة وضع الدستور) والثوب (الدستور) بحاجة إلى تغيير». وقد أشرنا فى المقال المذكور إلى نظريتنا الجديدة – غير المسبوقة - فى الفقه الدستورى المصرى والمقارن ,هى نظرية الانعدام والبطلان والانحراف فى القانون الدستورى شرحناها فى كتابنا «موسوعة شرح الدستور المصرى الجديد لسنة 2012، مفادها أن الدستور المنعدم هو الدستور الذى يتضمن بكامله مخالفات صارخة وجسيمة فى إجراءات إصداره وفى تشكيل الجمعية التأسيسية التى وضعته أى أن السلطة التأسيسية لا تُعبر عن حقيقة المجتمع والتيارات السياسية المائجة فيه وإنما تُعبر عن فئة أو طائفة معينة أو فكر إيديولوجى أو فكر سياسى أو عسكرى لا يُعبر عن آمال المجتمع وأهدافه وتطلعاته. كما يتضمن الدستور المنعدم مخالفات صارخة فى موضوعه بشأن الحقوق والحريّات والفصل بين السلطات واستقلال القضاء وحصاناته يتعذر معها القول بأن هذا الدستور يعتبر تطبيقا صحيحاً لمبادئ حقوق الإنسان ومبادئ الحكم الرشيد ويتعارض مع المبادئ العليا فوق الدستورية ويُعد استبداداً صارخاً من السلطة المؤسسة أو المانحة للدستور أو اغتصاب للسلطة التأسيسية الدستورية على خلاف أحكام القانون والأعراف الدستورية المعترف بها دولياً أو على خلاف النظام السياسى والاجتماعى للدولة، وعلى وجه العموم فإن الدستور المنعدم هو دستور خلا من الأركان الأساسية لقيام دولة دستورية حديثة يجب أن يُراعى فيها التوافق والرضائية Compatibility والتعاقدية Contracting بين الحاكم والأطياف السياسية فى الدولة وذلك بالمخالفة للمصادر الدستورية التى أولها المبادئ فوق الدستورية السائدة بين الأمم والشعوب. ويستخلص مما تقدم أن الانعدام الدستورى لا ينصرف إلى إجراء دستورى بعينه فقط أو مادة بعينها فقط وإنما ينصرف إلى الدستور برمته وما فيه من مواد أخرى تضمن عيوب تفصيلية خاصة بها ، ونحن نرى أن البطلان والانحراف يشكلان درجة أقل فى العيوب التى تلحق الدساتير. وقد تعرضنا فى المقال الثانى إلى الأسباب العامة لإنعدام دستور 2012 الشكلية والموضوعية والإجرائية والتى خلاصتها أن الدستور قد ولد فى دولة غير قانونية، وانعدام دستور 2012 لمخالفته ما استقر عليه الفقه والقضاء الدستورى من أنه يجب أن يُولد الدستور Constitution فى مناخ دستورى وفى ظل حكم يحترم الدستورية Constitutionalism . حيث صدور دستور 2012 فى بيئة قانونية ودستورية غير شرعية . كما تناولنا عشرة عيوب فى الدستور المذكور أخذت بها جميعاً لجنة الخبراء العشرة فى مشروع التعديلات المقترحة على دستور 2012 حيث سبق لنا أن أرسلنا اقتراحاتنا المذكورة إلى معإلى السيد المستشار رئيس الجمهورية وإلى أمين عام لجنة التعديلات الدستورية كما توجد عيوب أخرى متعددة تفصيلية فى غالبية مواد دستور 2012 سوف نتعرض لأهمها فيما يلى : العيب الأول: خلو دستور 2012 من النص على المجلس الخاص لمجلس الدولة وهيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة حتى لا يتمكن من النيل منها أى حزب سياسى يحصل على أغلبية فى مجلس الشعب مستقبلاً. العيب الثانى : إبقاء الدستور المنعدم على نسبة الخمسين بالمائة من العمال والفلاحين فى مجلس النواب طبقاً للمادة 229 من الدستور وإبقائه على ذات النسبة فى المادة 27 بشأن تمثيل العمال فى مجالس إدارة وحدات القطاع العام و المادة 207 بشأن تمثيل العمال والفلاحين فى المجلس الاقتصادى والاجتماعى وهى أفكار قديمة لا تتناسب مع ظروف المجتمع المصرى فى الوقت الحاضر والذى وصل فيه وعى العمال والفلاحين إلى مستوى يقارب مستوى ذوى المؤهلات العليا، وقد أخذت لجنة الخبراء بهذا الاقتراح والذى سبق لنا أن أرسلناه إليها. العيب الثالث: الإبقاء على مجلس الشورى دون لزوم ودون مقتضى وذلك طبقاً للمواد ( 128 – 131) بشأن مجلس الشورى وذلك لأن نظام المجلسين يكون غالبا فى الدول الفدرالية مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وجمهورية ألمانيا وقد أخذت لجنة الخبراء بهذا الاقتراح والذى سبق لنا أن أرسلناه إليها. العيب الرابع: تضمنت المادة 114 من دستور 2012 تغيير اسم مجلس الشعب ليكون مجلس النواب دون مبرر منطقى أو تاريخى لأنه من المسلم به أن المجلس التشريعى هو مجلس كل الشعب وليس مجلساً خاصاً لأشخاص النواب وقد كان من المنطقى لغة واصطلاحاً أن يظل مجلس الشعب باسمه المعروف وليس الاسم الجديد ويعد تغيير اسم «مجلس الشعب» إلى اسم «مجلس النواب» دون أى مبرر قانونى أو واقعى عيب فادح وهذه التسمية غير موفقة للأسباب الآتية : 1 - من الصحيح لغتةً واصطلاحاً تسمية هذا المجلس باسم مجلس الشعب أو مجلس الأمة لأنه هو المجلس الذى يمثل الشعب بجميع أفراده أو الأمة بجميع مكوناتها ، ويعتبر من غير الدقيق لغةً تسميته باسم مجلس النواب لأنه ليس مجلس خاص بالنواب وإنما هو مجلس للشعب أو الأمة. 2 - ترجع هذه التسمية فى نظرنا إلى رغبة واضعى الدستور فى السير على المنهج السطحى الذى يأخذ بفكرة «خالف تعرف» ولأن أعضاء مجلس الشعب المنحل وهم من أعضاء الجمعية التأسيسية يرغبون فى إثبات أن مجلس النواب هو مجلسهم الخاص الذى يجب أن ينسب إليهم فقط وليس إلى الشعب. 3 - رغبة أعضاء الجمعية التأسيسية فى إظهار النظام الدستورى المصرى بأنه نظام نيابى به مجلس نواب وهذا يخالف الواقع لأن النظام المنصوص عليه فى دستور 2012 هو نظام يغلب عليه النظام الرئاسى. د - مخالفة هذه التسمية للعرف الدستورى فى بعض المجالس النيابية فى الدول العربية لأن غالبية تلك الدول تطلق على هذا المجلس إما مجلس الشعب أو مجلس الأمة. 4 - خالفت هذه التسمية الواقع الدستورى والقانونى فى مصر لأنها قد أغفلت التراث التشريعى لمجموعة كبيرة من القوانين واللوائح التى تتضمن كلمة مجلس الشعب. 5 - أغفلت هذه التسمية التراث القضائى العريق لمحكمة النقض ومحاكم الاستئناف العإلى والمحكمة الدستورية العليا ومحاكم مجلس الدولة والتى تضمنت جميعاً أحكاماً قضائية كبرى تشتمل على اسم مجلس الشعب وكان يجب الإبقاء على هذه الكلمة كما هى. 6 - جانبت هذه التسمية التوفيق لأن ذلك سوف يتطلب مبالغ طائلة لتغيير اللافتات النحاسية والكتابات والأوراق والرموز والمطبوعات التى تحمل اسم مجلس الشعب وهو أمر غريب وشاذ ولا تحتمل ميزانية الدولة الفقيرة هذه التعديلات الساذجة والتى تدل على ضحالة الفكر وضآلة الفكرة ومجانبتها لأبسط قواعد اللغة والمنطق، وقد أخذت لجنة الخبراء بهذا الاقتراح والذى سبق لنا أن أرسلناه إليها. العيب الخامس: خلو الدستور من النص على عدم استخدام دور العبادة فى الدعاية الدينية لرئيس الدولة أو أى حزب سياسى أو دينى وعدم انتماء أئمة المساجد والعاملين فيها لأى انتماءات حزبية وتبعية الأوقاف والمساجد للأزهر الشريف وإلغاء وزارة الأوقاف أسوة بوزارة الإعلام. العيب السادس: خلو الدستور من باب مستقل للهيئات القضائية يتضمن أساسيات نظم الهيئات القضائية المنصوص عليها فى قوانينها حتى لا يتمكن من النيل منها أى حزب سياسى يحصل على أغلبية فى مجلس الشعب مستقبلاً. العيب السابع: خلو دستور سنة 2012 من النص على اعتبار أن المساس بحدود الوطن جريمة خيانة عظمى يحاكم عليها كل مسئول اشترك فيها ولا تسقط تلك الجريمة بالتقادم. العيب الثامن : خضوع دستور 2012 للمواءمات الدينية والسياسية والتى أفقدت الدستور توازنه وأفقدته مراعاته للمصالح العليا للدولة وليس المصالح الحزبية. العيب التاسع : تعدى دستور 2012 على اختصاصات المحكمة الدستورية العليا وفرض نظام الرقابة السابقة عليها فى قوانين مباشرة الحقوق السياسية ومجلسى الشعب والشورى على خلاف تاريخها وقانونها لأن عيوب النص الدستورى لا تظهر إلا بعد التطبيق الفعلى له فى الواقع ، وقد أخذت لجنة الخبراء بهذا الاقتراح والذى سبق لنا أن أرسلناه إليها. العيب العاشر : أخذ دستور 2012 بنظام الانتخاب بالقائمة وهو ما يتعارض مع ما جرى عليه العرف الدستورى والقانون المصرى من اختيار الأعضاء بناءً على النظام الفردى والاعتبارات الشخصية والكفاءة التى يظهرها كل مرشح فى عمله وقد أخذت لجنة الخبراء بهذا الاقتراح والذى سبق لنا أن أرسلناه إليها وسوف يتم حسم كل ما تقدم من لجنة الخمسين المختصة بذلك دستورياً. كما توجد عيوب أخرى متعددة فى غالبية مواد الدستور سوف نظهرها تفصيلاً فى المقال التإلى إن شاء الله تعالى.