العرب لا يقرأون ، أصبحت حقيقة ثابتة وواضحة وموثقة بالأرقام، ولا يكاد يمر أسبوع إلا وتصدر المؤسسات العالمية والعربية المعنية بشئون الثقافة والمعرفة بيانات تؤكد هذه الحقيقة، كان آخر هذه التقارير ما أصدره اليونسكو خلال الاحتفالات باليوم العالمى للكتاب فى الثالث والعشرين من إبريل الماضى، والذى أكد أن معدل قراءة الشخص العربى يعادل ربع صفحة سنويا. تزامن صدور التقرير مع تواجدى بالعاصمة الأرمينية يريفان، وبينما كنت أسير مع أحد أصدقائى بشوارع العاصمة الأرمينية ونتناقش عما جاء بالتقرير، توقفنا سويا أمام صندوق زجاجى كبير ممتلئ بالكتب ومكتوب عليه باللغتين الإنجليزية والأرمينية «بنك الكتاب»، وبجواره بعض الشباب الجالسين ليطالعوا بعض الكتب . طفنا حول ذلك الصندوق، ننظر من خلال جوانبه الزجاجية عما بداخله من كتب فى مختلف المجالات وبشتى اللغات مع تنوع الأحجام ، وبدأنا نتساءل ما هذا البنك، وما فكرته؟ ومن وضعه ومن المسئول عن إداراته؟ فى اليوم التالى زرت بلدية يريفان وألتقيت مع إيمين توروسيان مسئول الثقافة بالعاصمة، فسألته عن فكرة بنك الكتاب المنتشرة بشوارع العاصمة، فأكد لى أن البلدية تسير وفق خطط ثقافية واضحة المعالم والرؤى، وقد ولدت الفكرة بعد اختيار يريفان عاصمة للكتاب العالمى 2012، وأن تنفيذ الفكرة بدأ فى التاسع عشر من فبراير الماضى وذلك بوضع صناديق زجاجية كبيرة فى الميادين والشوارع المختلفة، تدعو الناس إلى التبرع بالكتب ومكتوب عليها «ضع الكتاب بعناية»، وتهدف إلى أن يقوم كل من لديه أى كتاب أو حتى مجموعة كتب لا يحتاجها بوضعها فى البنك من خلال فتحة أعلى الصندوق، يتم تجميع الكتب كل مدة ما بين أسبوع وأسبوعين ويتم تصنيفها حسب حالتها ونوع المعرفة أو الثقافة التى تنتمى إليها وتوزع على المكتبات العامة والمدارس ودور رعاية الأيتام وغيرها. وأنه يتعاون فى تنفيذ الفكرة كافة الجهات المسئولة عن الثقافة بريفان ممثلة فى وزارة الثقافة وبلدية يريفان وإحدى منظمات المجتمع المدنى، وأن هناك موقعًا إلكترونيا خاصا بالبنك يوضح أماكن انتشارها وما تم جمعه من كتب وما تم تصنيفه وتوزيعها، كما أنه لا تتوقف فكرة بنك الكتاب عند جمع الكتب وتوزيعه فقط بل يقوم بعمل حملات توعوية دائمة تهدف إلى التحفيز على القراءة على مختلف الأعمار. توقف الحديث عند هذا الحد، إلا أننا لم تتوقف عن الحديث عن أحوال القراءة والمعرفة فى عالمنا العربى بشكل عام المصرى بشكل خاص، وأهم ما دار برأسى هل إلى هذا الحد تجمدت عقولنا وعقمت عن تقديم مبادرات مبتكرة تساهم فى تغيير هذا الواقع المعرفى والثقافى المرير، وكيف لدولة صغيرة مثل أرمينيا تفتقر إلى العديد من المقومات وتعانى من أزمات سياسية واقتصادية طاحنة تقدم مبادرات ثقافية مبتكرة عجزت عن تقديمها كثير من الدول التى تمتلك الكثير من المقومات بل لا تجد أبوابًا لانفاق ما تبقى لديها من أموال، والأعجب أن شعوبها لا تزال تعانى تخلفًا ثقافيا ومعرفيا. كل هذه الأفكار دفعتنى إلى أن أسير فى شوارع العاصمة الأرمينية يريفان مفتشاً عن ما تملكه هذه الدولة من مقومات ثقافية لامثيل لها فى كثير من دول العالم، تلك المدينة الصغيرة الساحرة التى تحيط بها المرتفعات من كل اتجاه، وتعج بالمتاحف والمسارح والمكتبات والكنائس الأثرية، ويعبر كل ما فيه عن عمق الثقافة الأرمينية، حيث تضم المدينة 5 متاحف و3 مسارح ودارًا للمخطوطات ودارا للأوبرا و19 مكتبة ، و17 مركزًا ثقافيًا . كانت البداية فى شارع ماشتوتس بوسط العاصمة وبالتحديد فى ماتيناداران أو دار المخطوطات الأرمينية ذلك البناء البازلتى الضخم، القائم فى نهاية الشارع، والتى تستخدم أحدث أساليب الحفظ والأرشفة والفهرسة، وتضم بداخلها ما يقرب من 17000 مخطوطة و3000 آلاف وثيقة من بينها حوالى 600 مخطوطة باللغة العربية، وتعود بعض المخطوطات إلى العصور القديمة وباللغات العربية والفارسية والسريانية واليونانية واللاتينية واليابانية والهندية، فى ميادين التاريخ والفلسفة والحقوق والطب والرياضيات والفلك والأدب والفنون. ومن ماتيناداران سيرا على الأقدم وفى أقل من عشر دقائق تصل إلى ساحة الكسكادا ذلك المتحف المفتوح المقام على مرتفع جبلى وبشكل مدرج، قدمها أحد أبناء أرمينيا بأمريكيا هدية لدولته وتعهد ببنائه وجمع به تحفًا ومقتنيات فنية نادرة من كافة أنحاء العالم، ومن أعلى الكسكادا تستطيع أن ترى بسهولة جبل آرارات يكسوه الثلوج ليشكل خلفية فنية لصورة رائعة ليريفان الجميلة. وبمجرد أن تعبر الشارع من الكسكادا تصل إلى ساحة دار الأوبرا، وقبل الدخول بإمكانك أن تلقى نظرة على شارع لا تكسر به إشارة مرور، ولا يعبر مواطن الطريق إلا من المكان المحدد له ولا تسمع صوتاً لآلة تنبيه من أى سيارة، وكان كل شىءَ، وفق ما عد له سلفا. بصعوبة حصلت على تذكرة لحفل أوركسترا سيمفونى، وبداخل الأوبرا - ذلك المبنى العتيق الذى بنى فى ثلاثينيات القرن الماضى - تتعرف على شغف الشعب الأرمنى بالموسيقى والفنون فبالكاد تستطيع أن تلمح كرسيا شاغرا، وبعد ما يقرب من ساعتين انتهى ذلك الحفل الممتع.