علقت الهوى منها وليدا فلم يزل إلى اليوم ينمى حبها ويزيد وأفنيت عمرى فى انتظار نوالها وأبليت فيها الدهر وهو جديد فقد تلتقى الأشتات بعد تفرق وقد تدرك الحاجات وهى بعيد يموت الهوى منى إذا ما لقيتها ويحيا إذا فارقتها فيعود هكذا كان حال جميل بعد زواج بثينة.. ذكرى.. وعتاب.. وأمل فى اللقاء.. ووصف لحاله، وكيف تشتعل نار الحب فى قلبه مع الفرقا وسرعان ما تنطفئ مع اللقاء. وكذلك كانت بثينة لم تنساه.. ولكنها كانت تتابع أخباره وتسأل عن اشعاره، وكانت تبعث إليه برسائلها من خلال جارية مؤتمنة لها. وفى ليلة ظلماء تسلل جميل إلى خيام بثينة.. وكان زوجها غائبا ومعها عجوز من قبيلتها.. فنادى عليها فأدخلته إلى خيمتها وهو يقول: لها فى سواد القلب بالحب ميعة هى الموت أو كادت على الموت تشرف وما ذكرتك النفس يابثن مرة من الدهر إلا كادت النفس تتلف وإلا أعترتنى زفرة واستكانة وجاد لها سجل من الدمع يذرف وتحدثا طويلا.. حتى غلب عليهما النوم، وفى الصباح جاءها غلام من القبيلة بصحن فيه لبن فرأها نائمة وبالقرب منها جميل ومعها العجوز فسارع ليخبر أهلها فلقيته أختها وكانت تعلم بما حدث فعطلته عن غرضه، وبعثت بجارية لها لتنبه بثينة من الخطر الداهم، فأيقظتها وطلبت بثينة من جميل سرعة الانصراف حتى لا يدركه القوم، فودعها باكيا.. وهو يقول: ألا أيها البيت الذى حيل دونه بنا أنت من بيت وأهلك من أهلى ثلاثة أبيات، فبيت أحبه وبيتان ليسا من هواى ولا شكلى كلانا بكى أو كاد يبكى صبابة إلى إلفه واستعجلت عبرة قلبى خليلى فيما عشتما هل رأيتما قتلا بكى من حب قاتلة قبلى وقد اشتكى زوج بثينة إلى أبيها وأخيها من محاولات جميل فى الاقتراب من بيته ولقاء زوجته، فأرسلوا إلى جميل وعشيرته ينذروه ويتوعدوه، فلامه أهله على ما يفعل وطلبوا منه نسيانها.. فأجابهم بأنه لا يستطيع ذلك.. حيث إنها: غراء ميساء كأن حديثها در تحدر نظمه منثور لا مثلها حسن ولا كدلالها دل ولا كوقارها توقير فطلب أهله، من أبناء عمومه له كان يانس لهما أن ينصحاه وأن يحاولا أن يرداه عن غيه.. وعندما فعلا ذلك رد عليهم باكيا: لقد لا منى فيها أخ ذو قرابة حبيب إليه فى ملامته رشدى وقال أفق حتى متى أنت هائم ببثينة فيها قد تعيد وقد تبدى أفى الناس أمثالى أحبوا فحبهم كحى أم أحببت من بينهم وحدى وهل هكذا يلقى المحبون مثل ما لقيت بها أم لم يجد أحد وجدى إذا ما دنت زدت أشتياقا وإن نأت جزعت لنأى الدار منها وللبعد وقد مرت على جميل أيام وليالى عديدة لم يستطع فيها الذهاب إلى ديار بثينة ولا رؤيتها، فعزم أن يذهب إلى بلد بعيد لعل يكون فيه السلوى مما يعانيه، ورحل إلى الشام ومدح خلفاء بنى أمية فوصلوه ومنحوه عطاياهم، ولكن ظلت ذكرى بثينة لا تفارقه.. فعزم مرة أخرى فى الذهاب إلى مصر وكان يسمع عن عبد العزيز بن مروان والى مصر وأنه يحسن استقبال الشعراء ويبالغ فى إكرامهم فتحايل على لقاء بثينة لوداعها.. وعندما انصرف عنها بكى وأنشد: أرى كل معشوقين غيرى وغيرها يلذان فى الدنيا ويغتبطان أصلى فأبكى فى الصلاة لذكرها لى الويل مما يكتب الملكان ضمنت لها إلا أهيم بغيرها وقد وثقت منى بغير ضمان ألا يا عباد الله قوموا لتسمعوا شكاية معشوقين يشتكيان يعيشان فى الدنيا غريبين أينما أقاما وفى الأعوام يلتقيان ووصل جميل إلى مصر وأحسن أميرها استقباله، ولكن سرعان ما مرض مرضا شديدا قضى فيه نحبة، وأثناء مرضه لقاه رجل من عشيرته فحمله أمانة بعد وفاته وهى أن يلبث ثوبه ويركب ناقته.. ويمر بخيام بثينة ويردد هذه الأبيات: صرخ النعى وما كنى بجميل وثوى بمصر ثواء غير قفول صرخ النعى بفارس ذى همة حلو الشمائل للرجال قتول قومى بثينة فاندبى بعويل وأبكى خليلك دون كل خليل ونفذ الرجل الوصية.. وسار فى ديار بثينة يردد أبيات جميل، وسمعت بثينة ما يقول فسقطت مغشيا عليها، وعندما أقاقوها أخذت تبكى وتندب ومعها نساء القبيلة ثلاثة أيام.. وكانت تقول: وإن سلوّى عن جميل لساعة من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن معمر - إذا مت - بأساء الحياة ولينها واستمرت تردد هذين البيتين حتى قضى عليها الحزن واليأس.. وماتت! رحم الله العاشقين