يالائمى فيما كتبته عن هارون الرشيد،تمهل، فإن عذرى أن الكتابة جاءت ضمن رصد للأوعية التى كان الغناء العربى يتم فيها من العصور الإسلامية المتقدمة. فهى كعكس قيمة الغناء والمغنى، ولم أكتب تاريخا للخليفة العظيم الذى مايسمع الإنسان العربى اسمه إلا وينشط خياله ولاعجب فى ذلك، فهارون الرشيد هو بطل من أبطال «ألف ليلة وليلة» وقد أسبغت عليه قصص هذه نفس الألوان الزاهية التى أسبغت على أبطال القصة التراثية العربية العالمية. ولاننكر حب هارون الرشيد للغناء والطرب والمشراب والشعر والكتابة والعبث والنساء أيضا، فقد تزوج فى الواقع ست مرات وهن بالترتيب زبيدة أم محمد الأمين-الخليفة فيما بعد ،ثم أمة العزيز التى ولدت له ابنه على، ثم أم محمد ابنة صالح المسكنى، ثم العباسة ابنة سليمان بن أبى جعفر، ثم عزيزة ابنة الغطريف (بنت خاله) وأخيرا الجرشية العثمانية المولودة فى جرشن باليمن، ومات وعلى زمته أربع هن زبيدة وأم محمد والعباسة و الجرشية. كان هارون الرشيد ورعا زاهدا يصلى مائة ركعة يوميا- كما ذكر الطبرى، ويتصدق من ماله بألف درهم بعد زكاته، وإذا حج كان يحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإن لم يحج فيتحمل تكاليف حج ثلاثمائة رجل بالنفقة والكساء المبهر. كان متواضعا، وقال أبو معاوية وهو ضرير من علماء الدولة فى عصر هارون: إنه أكل مع الرشيد يوما فصب على يده الماء رجل وقال له يا أبا معاوية أتدرى من يصب الماء فقال أبومعاوية: لا يا أمير المؤمنين، فقال أنا، فقال أبو معاوية: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا إجلالا للعلم؟ فقال الرشيد: نعم. كان هارون الرشيد أيضا مشجعا للفقهاء والعلماء والشعراء والكتاب،وهو الخليفة الحذر يبعث بجواسيسه بين الناس ليطلع على أحوالهم. ماظهر منها وما بطن. وكان لنفس الهدف يطوف بالأسواق.هو أيضا الخليفة القوى الذى أذل أعداء الإسلام وبسط سلطان الخلافة على أطراف الأرض فانتصر على الخوارج وقد قاموا عليه وتعامل بقوة مع الاضطرابات التى حدثت فى خراسان. وكذلك فعل مع القلاقل والعصبية فى الشام. وكانت العلاقة بين العرب والروم مضطربة، فاشترك بنفسه فى غزو الروم الذين حاولوا إعادة أراضيهم التى سيطر عليها العرب. وانتصر هارون وفرض على الروم دفع الجزية.وبعد فترة وجيزة قرروا المحاولة وانتصر أيضا هارون الرشيد وفتح مدينة هرقلة معقل الروم وفرض عليهم دفع جزية مرة أخرى. كما نجح أشهر خليفة فى التاريخ هارون الرشيد فى القضاء على الفتنة فى إفريقيا. عُرف عصر هارون الرشيد بالخير وسمى الناس أيامه بأيام العروس لكثرة خيرها. وعرف بالوفاء فقد تولى الخلافة يوم 14 ربيع الأول عام 170 ه . وعمره لايتجاوز الخامسة والعشرين عاما. فلما استقرت خلافته استعان بيحيى بن خالد البرمكى الذى كان دائما ينادى هارون ب «ياأبى» وقال له: «ياأبى أنت أجلستنى هذا المجلس ببركة رأيك وحسن تدبيرك، وقد قلدتك أمر الراعية وأخرجته عن عنقى إليك، فاحكم بما ترى». كانت سيرة هارون الرشيد مادة قصصية فى التاريخ الإسلامى وحكيت من حواديته وقصصه الكثير فى «ألف ليلة وليلة» التى صورته فى أشكال جذابة وأشادت بنبله وكرمه وأمجاده. ففى معظم هذه القصص ظهر الرشيد فى صورة الأمير الذى إذا شعر بالملل يأتيه وزيره جعفر البرمكى ببعض رواة العصر وسماره يروون له أغرب ما سمعوه أو شاهدوه من قصص. أما إذا أصابه الأرق فإنه يبحث عن السلوى فى الطواف ليلا أنحاء العاصمة العباسية ليتفقد أحوال الرعية وهو متنكرا فى زى التجار ويقلده بعض رفاقه الذين يلازمونه ويطوف الجميع أحياء بغداد فتسوقهم المقادير إلى بقعة أو منزل يرون فيه أغرب المشاهد ويسمعون أغرب القصص والروايات ومن القصص التى نسبت إلى عصر الرشيد قصة «السندباد البحرى» الشهيرة، وكذلك قصة «قوت القلوب» الجارية الحسناء التى شغف بها الرشيد وقصته مع خليفة الصياد، وقصته مع البنت العربية التى أنشدته أبياتا أعجب بها، ثم طلب منها تغيير القافية مع البقاء على المعنى ففعلت فأعجب بها وتزوجها. ساهمت قصص ألف ليلة وليلة فى رسم صورة لهارون الرشيد يظهر فيها محبا للنساء ومجالس اللهو. فوقعت فى نفس المطب الذى وقعنا فيه عندما اقتحمنا مجلس الغناء والشراب الخاص به، ونسينا أن نمسك السيف والدرع ونخوض معه بعض معاركه التاريخية، فالاعتذار واجب للخليفة العظيم هارون الرشيد.