رغم النهضة الحالية التى تشهدها الساحة الإعلامية المصرية فى مجال الصحافة المرئية وأعنى بها ذلك الصندوق السحرى المسمى بالتليفزيون وما يمتلكه من وسائل الإبهار وسبل التقدم المذهل الذى صادف تقنياته فى السنوات الأخيرة والذى يهدد استمرارية وسائل الإعلام وأقصد بها الإعلام المقروء وتمثله الإصدارات الصحفية والتى شهدت هى الأخرى نهضة كان من نتاجها اتساع رقعتها، خاصة بعد الأحداث المتلاحقة التى شهدتها الساحة الدولية، خاصة التطورات المذهلة على كل المستويات سياسية واقتصادية واجتماعية، وكذلك الإعلام المسموع وتمثله محطات البث الإذاعى والتى مازالت رغم كل المتغيرات تحتفظ بمذاقها الخاص مما جعلها تحتفظ - وإن كان ذلك نسبيا - بشريحة كبيرة ممن يحملون للإذاعة أجمل الذكريات التى تنقلهم طواعية إلى عبق التاريخ والأيام الجميلة رغم ما كان بها من بساطة محببة لدى هذه الشريحة والتى يمثل معظمها أجيال سبقت ظهور التليفزيون. وأزعم أننى ضمن هذه الشريحة، حيث ظهر التليفزيون وأنا لم أبلغ التاسعة من عمرى، خاصة أننى من ريف مصر الذى لم تدخله الكهرباء إلا فى سنوات شبابى المبكر، لذا فأنا أرتبط وجدانيًا بالإذاعة ولم أزل على هذا النحو رغم ما طرأ على حياتنا من تطورات مذهلة بسبب ذلك الضيف المبهر والذى لم يعد يخلو بيت من بيوتنا من ذلك الجهاز الساحر. *** وإذا كان التليفزيون قد خلق لونا جديدا من النجومية الإعلامية فإن هؤلاء النجوم أشبه بالضوء الفسفورى الذى ما يلبث أن يضىء إلا وتعقبه ظلمة تزيل فورا ما ظنناه ضوءًا يقينيًا ومن هنا فإن هذه النجومية لا تعلق بالوجدان ولا نحمل لها بعدا ثقافيا يمكن أن نرى أثره واقعا فى عقولنا وقلوبنا معًا وذلك على العكس تماما فإن للإذاعة نجومًا مازلنا نذكر لها فضل ما تزودنا به من ثقافات شتى فى سائر المجالات، فضلًا عن ساعات المتعة الراقية التى تبثها فينا أعمال فنية كان لها الأثر العميق فى تكوين إدراكاتنا الثقافية رغم ما كان بها من بساطة تبتعد بها عن شبهة الاستعلاء والدليل القاطع على ذلك أننا لم نزل نحتفظ وجدانيا بمعظم هذه الأعمال رغم مضى السنوات الطويلة التى تماثل أعمارنا والتى اقتحمت أطوار الشيخوخة نحو نهاية العمر. *** ومن أهم هذه التحف الإذاعية - إن صح التعبير - والتى مازالت عالقة فى أذهاننا تلك الصور الغنائية التى أصبحت تمثل جزءًا مهما من التراث الإذاعى الذى نتيه بها فخرا يدل على ما كان للإذاعة المصرية من ريادة مستحقة على كل الإذاعات العربية والتى كان معظمها لم يزل وليدا يعتمد فيما ينتج إذاعيا على الخبرات المصرية شأنها فى ذلك شأن سائر ميادين الإبداع والعلوم والفنون والآداب.. ومن هذه الصور الغنائية «عواد باع أرضه» تأليف الشاعر مرسى جميل عزيز وألحان كمال الطويل وأخرجها فى أسلوب إبداعى سهل ممتنع الرائد الإذاعى الراحل أنور المشرى.. وأصبح هذا الأوبريت يدلل به على الانتماء للأرض مبرزًا العواقب الوخيمة حينما يتخلى الفلاح عن أرضه تحت وطأة نزواته وأهوائه المريضة.. وللمشرى نماذج أخرى مماثلة لا تقل فى روعتها عن هذه الصورة الإذاعية الرائعة. ويأتى الرائد الإذاعى عبد الوهاب يوسف هو الآخر فى مقدمة مبدعى البرامج الغنائية، حيث قدم روائعه ومنها «خوفو» و«السوق» وغيرهما،وتزدحم قائمة المبدعين فى هذا المجال الذى نفتقده اليوم ومنهم عثمان أباظة وبرامجه «فرح شرقاوى» الذى يجسد فيها قيما من محافظته الشرقية، خاصة فيما يتعلق باحتفاليات الأعراس الريفية، فضلا عن تقديمه برنامجه المميز «مواكب النبوة».. أما المخرج الراحل يوسف الحطاب فقد تنوعت إبداعاته الإذاعية بين الدراما الخالصة كتحفته التى لاقت نجاحا مذهلا حين تم إذاعتها فى أوائل خمسينيات القرن الماضى وهى المسلسل الإذاعى الأشهر «سمارة» والتى قام ببطولتها محسن سرحان مع سميحة أيوب عن إعداد إذاعى راق لمحمود إسماعيل وعبد المنعم السباعى.. وقد كانت الشوارع فى المدن والقرى تكاد تفرغ من المواطنين وقت إذاعة المسلسل فى الخامسة والربع من مساء كل يوم لمدة شهر كامل وقد استثمر هذا النجاح بتحويلها لفيلم سينمائى صادف هو الآخر نجاحا مذهلا وبنفس أبطاله فى الإذاعة.. ولم تقتصر إبداعات يوسف الحطاب عند هذا اللون الإذاعى، إنما تجاوزته للبرامج الدينية، حيث كان شهر رمضان من كل عام على موعد مع البرنامج الناجح «أحسن القصص» الذى كان يتناول نماذج من القصص القرآنى المحكم البنيان وكيف لا وقد صاغه الحق سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز. *** ومن رواد الإذاعة ممن ذاعت شهرتهم نذكر الراحل الكبير محمد محمود شعبان والذى اشتهر باسم «بابا شارو» وقد جمع بين الأداء لصوت إذاعى مميز والإخراج الإذاعى المتفرد، حيث قام بتربية أجيال عبر برنامجه «لأطفال مصر» خلال نصف قرن كامل وتولت بعده «أبلة فضيلة» تكملة مشواره فى هذا المجال.. ومن إبداعاته كمخرج إذاعى برنامجه الغنائى «الدندورمة» والذى ظل حتى يومنا هذا يحظى بالإقبال الجماهيرى لمستمعى الإذاعة رغم تكرار إذاعته على مر السنين الطويلة دون ملل أو إحساس بالتكرار.. وعلى ذكر الدراما الإذاعية لا نغفل أحد روادها البارزين وهو الإذاعى صاحب الصوت الرخيم والمتنوع فى قدراته ومواهبه وهو «ديمترى لوقا» الذى هاجر تاركا مصر منذ ما يقرب من خمسين عاما، وقد ترك لنا تراثا إذاعيا مشهودا وكفاه فخرا أنه مخرج برنامج «من الحياة» الذى كان يقدم من العظة والعبرة من خلاله قصصه الإنسانية التى كان يستمدها من خطابات المستمعين الذين يرسلون بتجاربهم الواقعية مما حدث لهم من تصاريف حياتهم الشخصية وكانت الجائزة ثلاثة جنيهات ارتفعت فى حلقاته الأخيرة إلى خمسة جنيهات وكان ذلك مبلغا ماليا كبيرا بمقاييس ذلك العصر. *** ولا يفوتنا فى هذا المقام أن نتناول نماذج مشرفة من رواد العمل الإذاعى من أصحاب الأصوات التى علقت بآذان المستمعين وقلوبهم معًا ومنهم الراحل جلال معوض الذى واكب بصوته تطورات الأحداث إبان ثورة يوليو ومعه الراحل حسنى الحديدى وحافظ عبد الوهاب. ومن الأصوات التى نادرا ما تتكرر عبر أجيال نذكر أعذب صوت قرأ نشرة الأخبار وهى الإذاعية بديعة رفاعى ذلك النموذج الأمثل فى جدية الإلقاء وعذوبته فى ذات الوقت.. وعلى نفس الدرجة كانت الإذاعية الكبيرة سامية صادق صاحبة أروع البرامج ومنها «فنجان شاى» الذى استضافت من خلاله الملوك والرؤساء فى حلقات ثرية تمثل تراثا إذاعيا رائعا، فضلا عن أنها صاحبة برنامجى «حول الأسرة البيضاء» «وما يطلبه المستمعون» وكلاهما مازال يقدمهما تلاميذ سامية صادق حتى اليوم. *** وإذا كان لكل عالم هفوة ولكل جواد كبوة فإن الأمل يحدونا أن تعود إذاعتنا المصرية الرائدة إلى سابق عهدها كرافد من روافد الثقافة السمعية له رواده ومحبوه رغم الإبهار الزائف الذى يحدثه ذلك الجهاز الأجوف المسمى بالتليفزيون.