سيد درويش أحد أهم مجددى الموسيقى العربية، ولد فى 17 مارس 1892 بحى كوم الدكة بمدينة الإسكندرية. ونشأ سيد درويش بين والديه وأخواته كما ينشأ كل طفل مدلل وكان موسيقيا بالفطرة إذ كانت والدته تقول إنه لم يكن قد بلغ الأربعين يوما، إذا سمع صوتا حنونا أو موسيقيا يترك ثديها ويدور بعينيه باحثا عن مصدر ذلك الصوت. وتوفى والده ولم تكن سنه قد بلغت السابعة، فنقلته والدته إلى مدرسة أهلية افتتحها شاب من أهل الحى اسمه «حسن أفندى حلاوة» . وفى هذه المدرسة تلقى الفقيد أول شعاع من أشعة الموسيقا إذ كان أحد مدرسيها «سامى افندي» مولعا بحفظ الأناشيد والسلامات وكان يلقنها للتلاميذ فلم يلبث سيد الصغير أن فاق جميع أقرانه فى حفظ الأناشيد فعيّنه رئيسا عليهم (ألفه) وظل بهذه المدرسة قرابة عامين يحفظ القرآن الكريم ثم أغلقت المدرسة عقب اتفاق منشئها مع أحد أصدقائه على الاشتراك معه فى إدارة «مدرسة شمس المدارس» التى كانت وقتئذ بجهة بحرى شارع سيدى الحلوجى فانتقل إليها ولحسن الحظ كان بها مدرس اسمه «نجيب افندى فهمى» التحق بعد ذلك بفرقة جورج أبيض لعمل « المكياج» لأفراد الفرقة. كان هذا المدرس ممن يجيدون حفظ ألحان الشيخ سلامة حجازى وكان الطفل سيد درويش بعد انصرافه من المدرسة يجتمع بأصدقائه الصغار ممن هم فى سنه ويذهبون جميعا إلى مسجد «سيدى حذيفة اليماني» ويأتون بصندوق كبير من الخشب ليقف عليه سيد وينشدهم ما كان يحفظه من الحان سلامة حجازى وكان أهل الحى يطربون من ذلك الطفل العجيب ويصفقون له ويشجعونه. وفى ذلك الحين أصدر الخديو عباس أمرا بإنشاء (المعهد الدينى العلمي) بالإسكندرية برئاسة الشيخ محمد شاكر وكانت السنة الدراسية الأولى بمسجد (سيدى ابى العباس) والسنة الثانية بمسجد (الشوربجي) بالسكة الجديدة والميدان فانتسب إليه سيد درويش بزيه المعمم. وقد استمر فى طلب العلم بالمعهد ما يقرب من عامين انقطع بعدها ليخدم السيرة النبوية الشريفة بعد ما رأى أن استمراره بالمعهد سيقف حائلا بينه وبين ما يحسه فى قرارة نفسه من ميل إلى الموسيقى والغناء. عندما بلغ سيد درويش السادسة عشرة من عمره تزوج، ولم يمض على ذلك الزواج بضعة شهور حتى كسد سوق عمله، ولم يعد أمامه منفذا للرزق، وقضت الظروف على سيد درويش أن يتدرج فى بيئة تخالف البيئة التى نشأ فيها فاشتغل لأول مرة بالغناء بفرقة «جورج داخور» التى كانت تعمل بجهة كوم الناضورة بقهوة (الياس) وكانت الفرقة تحمل اسم (كامل الأصلي) فكان يلقى الشيخ سيد بعض أغانى المرحوم الشيخ سلامة حجازى بهذا المقهى إلى أن اضطرته الظروف بعد حل الفرقة، إلى أن يغنى فى مجال لا يليق بكرامته ولا بالزى الذى يرتديه مثل مقهى (أبو راضي) فى حى «الفراهدة» ولكن لم يطل عمله بها وتركها وبدأت الدنيا تضيق فى وجهه وأخذ يبحث عن عمل إلى أن عمل مناولا للبياض وتصادف أن كان بجوار العمارة التى يعمل بها مقهى كان يجلس عليه الأخوان أمين وسليم عطا الله. وبدأ العمال يرجون سيد أن يغنى لهم شيئا فجلس على السقالة يغنى لهم وما أن سمعه الأخوان أمين وسليم عطا الله حتى أعجبا به واتفقا معه على السفر للأقطار السورية مع فرقتهما. كانت هى الرحلة الأولى فى حياته وكان ذلك سنة 1909 ورزق بولده محمد البحر يوم سفره، وأمضى فى تلك الرحلة حوالى عشرة شهور تعرف خلالها بالأستاذ عثمان الموصلى وأخذ عنه من التواشيح والقدود، وعاد سيد درويش إلى مسقط رأسه ليكافح الزمن صابرا على مساوئ دنياه. وبدأ سيد درويش يستأنف جهاده من جديد فى سبيل العيش وأصبح عليه أن يسعى لا ليكسب قوته وحده بل قوت والدته وزوجته وولده. وعاد إلى العمل بالمقاهى وظل يعمل على هذا المنوال قرابة عامين حتى اشتدت الأزمة أيام حرب طرابلس وحالت بينه وبين أن يجد عملا فاشتغل كاتبا بمحل لتجارة الأثاث كان ملكا لصهره ولكنه لم يستمر فى هذا العمل أكثر من أربعة شهور. ثم عاوده الحنين إلى فنه فاشتغل فى (باركوستي) بأول شارع انسطاس، وعلم صهره بعودته للاشتغال بالغناء وفى (بار) وكان رجلا رجعيا فأقسم بالطلاق ألا يدخل سيد درويش المنزل إلا إذا اعتزل الغناء. عز على الموسيقار الراحل أن يكون بالإسكندرية ويحرم من شقيقته الكبرى التى كان يحبها حبا شديدا وامتنع عن الغناء مضطرا حتى أرسل الله له أمين وسليم عطا الله الذى اتفقا معه على السفر للرحلة الثانية للأقطار السورية فى 1912، فكانت هذه الرحلة هى الحجر الأول فى بناء مجده وقد وفق أيما توفيق واستمرت عامين ورجع بعدها إلى الإسكندرية بعد أن امتلأت جعبته الفنية من فن الأستاذ عثمان الموصلى وممن كان يتصل بهم من كبار الموسيقيين ورجال الفن هناك وقد حفظ الكثير من الأغانى والموشحات كما أحضر معه الكثير من الكتب الموسيقية وقد عثر بينها على كتاب موسيقى اسمه «تحفة الموعود فى تعليم العود». عاد سيد درويش وتعرف بجليلة وكان يعتقد أنها مصدر وحيه وإلهامه، وتقول هى أنه ما من لحن لحنه إلا كانت له بينهما مناسبة. فى ذلك الحين بدأت ينابيع فن سيد درويش تتفجر وبدأ فى التلحين فأخرج أول دور له وهو (يافؤادى ليه بتعشق) الذى تقدم ذكره ثم تبعته أدوار أخرى، ومن الطقاطيق التى اشتهر فى تلك الأيام ولاتزال (زورونى كل سنة مرة). ضاقت الإسكندرية بفن سيد درويش فنصح له بعض أصدقائه بالسفر إلى القاهرة وأقام أول حفلة له بها فى كازينو البسفور. وكان ذلك فى سنة 1917 تقريبا واتبع ذلك اتفاق مع جورج أبيض ليلحن له رواية (فيروز شاه) فكانت أول رواية لحنها ثم اتفق مع نجيب الريحانى على تلحين رواياته وكانت أول رواية لحنها له (ولو) التى نجحت نجاحا كبيرا . بدأ نجم سيد درويش فى الصعود وبعد ذلك أخذ يمطر المسارح بالروايات ما يعد بحق دررا خالدة. ثم كانت الحركة الوطنية سنة 1919 فأسهم فيها بأناشيده الوطنية وألحانه الثورية (قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك خد بنصرى نصرى دين واجب عليك) ، ولحن (احنا الجنود زى الأسود نموت ولانبعش الوطن)، و(بلادى بلادى لك حبى وفؤادي) . وفكر سيد درويش فى أواخر أيامه فى إنشاء فرقة خاصة له حتى يتمكن من إظهار فنه العظيم وحتى يتخلص من متاعب أصحاب الفرق ومعاملتهم. وقد تم له ذلك وأخرجت الفرقة روايتى (شهرزاد) و(البروكة) ثم أعاد تمثيل (العشرة الطيبة) التى كانت قد ظهرت قبل ذلك بسنتين بفرقة نجيب الريحانى توفى الموسيقار سيد درويش فى 15 سبتمبر 1923 بمسقط رأسه بالإسكندرية التى جاء منها وعاد إليها وولد فيها ودفن فى ثراها.