فى أحد مطاعم لندن.. كان الدبلوماسى المصرى يحتفل بمجموعة من الزملاء الصحفيين حضروا فى مهمة عمل.. وأثناء الطعام والكلام والحواديت سمعوا صوتا يبدو أنه من أهل الشرق انجليزيته مكسرة أو قُل «مدغدغة».. كان صاحب الصوت يبكى متوسلا بما يمكن أن نترجمه على النحو التالى: بليز دونت كت ماى بيرد.. بليز! توقفت السكاكين والملاعق عن رحلتها المكوكية من الأطباق إلى الأفواه.. واستدارت النظرات نحو مصدر الصوت وضحكوا من هذه التركيبة العجيبة التى لا يمكن أن يطبخها إلا مصرى.. ذهب إلى الإنجليزى يطالبه بعدم قطع عيشه..! تدخل الدبلوماسى وشرح للشاب أن هذا التعبير العاطفى الذى نتداوله فى بلادنا غير مؤثر أو فعال أو مفيد فى بلاد الفرنجة.. لأن الثقافات مختلفة.. وما ينفع معنا لا يصلح مع غيرنا. وعندما جاء فيكتور الأمريكى إلى القاهرة طلب زيارة ميدان التحرير بشهرته العالية.. ولاحظ وجود بائع بطاطا وسط المتظاهرين وأدهشه وجوده.. وسأل عن معنى حضوره بين هذه الحشود الغاضبة وهل البطاطا هى الأكلة الرسمية لثوار مصر؟ وأصر فيكتور أن يسأل البائع بنفسه وتحدث معه طويلا بكل دهشة ومودة.. ولكن ما استوقفه فى الحديث ذلك التعبير الفريد الذى استمع إليه لأول مرة:(يا خواجة.. أنا راجل ماشى جنب الحيط).. المصطلح استوقف الخواجة وراح يناقشه مع «درش» صديقه المصرى الذى استضافه وكان يصحبه فى الميدان وشرح له كيف أن الشعب المصرى فى معظمه يؤمن بهذا المثل ويطبقه، والمقصود أنه يفضل أن يعيش حياته فى هدوء.. يبعد عن الهيصة والزمبليطة ويغنى لها.. مع أنه يحب الفن والرقص والغناء.. فهو إذا فرح يغنى.. وإذا حزن يغنى وقد يرقص من السعادة أو من الألم.. والمشى جنب الحيط يعنى رغبته أن يمشى فى حاله ويشترى دماغه.. لأن لقمة عيشه أهم عنده من كل شىء.. فهو لا يحب دوشة الدماغ واستغرب الخواجة فيكتور وكيف لمواطن يحب الانزواء والابتعاد وربما السلبية والانسحاب.. أن يساهم فى نهضة بلاده ومن قام بالثورة؟ إذا كان السواد الأعظم من الشعب المصرى يحملون عضوية نادى الكنبة وحزب البطانية واللحاف. وهنا يشرح درش أن لدينا ما يسمى بالنخبة.. يفكرون ويتجادلون ويتقاتلون ويتشاحنون باسم الشعب.. ولذلك أصبحت مهنة «الناشط السياسى» موجودة فى سوق العمل وهى مربحة ومكسبها معقول وشهرتها واسعة. ويكفى أن يضع الناشط قدمه فى قناة فضائية.. ويتربص بمن يحاوره ويعلن عن نفسه بقوة يشخط وينطر ويصيح ويشتم ويرمى بالميكروفون وينسحب على الهواء المهم أن يلفت الأنظار فى أول مرة.. لكى يتم استضافته فى برامج أخرى.. ويغير محل سكنه ليصبح مدينة الإنتاج الإعلامى، حيث توجد معظم استديوهات البث المباشر.. يكفى أن يضع فى سيارته بدلة زيادة وقميصين لكى يغير اللوك وليس المهم ماذا يقول.. المهم كيف يقول.. ثم يتحول إلى حزب من الأحزاب.. أو يمنح نفسه لقب «خبير» فى أى شىء.. أو مديرا لمركز دراسات المحشى والمسقعة.. ولا تسأل عن مقر المركز ونشاطه.. فكلها دكاكين هدفها تلميع صاحبها..! يا أخى عجيب أمر شعبكهم.. هكذا صاح فيكتور وهو يستمع إلى هذا الشرح من درش.. وسر دهشته أن هذا الشعب الذى يجب أن يمشى جنب الحيط طلبًا للسلامة لا يعرف أنه بذلك يضع نفسه فى دائرة الخطر.. لأن الحيط من الممكن أن يسقط فوق رأسه فى أى لحظة.. والحياة مغامرة تحتاج إلى القلب الجسور.. والمستسلم المتخاذل لن ينجو منها.. هل رأيت الذى يمشى على الرصيف ملتزما بتعليمات المرور وقواعد السلامة.. فتطلع إليه سيارة طائشة لكى تجيب خبره.. وهل سمعت عن ذلك الذى فضل أن يمشى أسفل أحد الكبارى هروبا من لسعة الشمس.. فسقطت سيارة نقل على دماغه وعليه السائق والتباع.. و2 طن من الحديد المسلح.. وهذا هو ثمن «الضل» وهذا الذى يخشى من حوادث السيارات على الطريق ويفضل ركوب القطار.. حتى وجدوه محشورًا بين العربات فى آخر حوادث تصادم القطارات. فيكتور يسأل.. و «درش» يجيب: وهل تغير المواطن البسيط بعد ثورة 25 يناير وأدرك أن ما يحدث فى البلاد يخصه ويهمه؟ الإجابة: نعم.. لقد تغير وأصبح أكثر جرأة فى الكلام لكن عندما تحصى أعداد المتظاهرين فى الحشود الأخيرة سواء من كانوا فى ميدان النهضة عند جامعة القاهرة أو من كانوا فى التحرير عند جامعة الدول.. سنجد أن الغالبية هم من كانوا فى العتبة عند جامع البنات، حيث التوابل والأقمشة والأدوات المنزلية والبقالة ولعب الأطفال وحركة البيع والشراء التى لا تتوقف، حيث تجد الناس مثل النمل.. يتصادمون ويتعاتبون ويناضلون ويحملون ما يحملون.. من الأرزاق على اختلافها. يتجول فيكتور فى شوارع وحوارى مصر.. يشم رائحة الفول والكشرى والبصل والمنظفات والكبدة بالفلفل ويرى المقاهى المزدحمة فى كل وقت، حيث الشاى والحلبة الحصى والسحلب وزهر الطاولة وصوت الدومينو وأم كلثوم مع عبد الباسط عبد الصمد مع شعبولا ومطربة الحنطور وأبو العينين شعيشع.. مع شتائم بالأم والأب وأعضاء معينة من الجسم.. فى خناقة حول أولوية المرور بين سيارة ملاكى يعود موديلها إلى السبعينيات مع توك توك مكتوب على ظهره «كله بالهداوة». يتطلع إلى وجوه الناس.. وهم فى أصعب اللحظات يضحكون ويشمون عوادم السيارات بكل ارتياح ويمضى الولد راكبًا البسكليتة وفوق رأسه أقفاص العيش الساخن وقد ترك يديه حرة وهو يتمايل بالدراجة مثل الثعبان ويتحرك ببراعة رغم الحمولة فوق رأسه. وعلى مقربة من خناقة حارة.. نجد من يفترش حصيرا على الرصيف ويؤدى الصلاة مع غيره.. وحذاؤه أمامه تحت بصره.. وشواكيش ميكانيكى السيارات بجوار المصلية لا تتوقف عن الدق.. لأن العمل بالنسبة للأسطى «عبادة».. بينما العبادة لمن يؤدون الصلاة عمل خاص فى المصالح الحكومية. فيكتور ترك كل شىء وأصبح يدور فى القاهرة، ثم فى المحافظات يبحث عن هذا الذى يفضل أن يمشى بجوار الحيط.. ويدرك فى نهاية المطاف أنه يمشى على الحيط وبمهارة بالغة.. لكنه يتواضع أو هكذا يدعى.. لذلك سأل عن معنى كلمة «استعباط».. وكيف أن الفارق كبير بين «العبط» الذى يتسم البعض به كصفة إنسانية لا دخل له فيها مثل لونه واسمه وخصائصه.. وبين «الاستعباط» الذى تكتسبه الأغلبية بالممارسة. فيكتور بعد جولاته أدرك وأيقن وآمن أن هذه البلاد لا نظير لأهلها فى أرجاء العالم، فهم تركيبة عجيبة من البشر قد يأخذونك إلى البحر ويعودون بك وأنت فى قمة العطش، ومن قال إنه يفهمهم يضحك على نفسه.. فإذا قال أحدهم إنه يمشى جنب الحيط فاعرف أنه يستطيع فى لحظة أن يهدم الحيط ويبنيه على كيف كيفه، ووقت ما يريد، لأن الحيط نفسها بعد فترة تقول له: أنا تحت أمرك يا معلم!!