أول أغنية انطلق بها الأستاذ أنيس منصور، كانت فى مهرجان للشباب، أقيم فى فينيا عاصمة النمسا وكان الشباب من كل دولة يغنى بلغات مختلفة يقول الأستاذ أنيس فى كتابه «الكبار أيضاً يضحكون» سمعنا أغنيات لا نفهمها وجاء دورى وسألنى المذيع عن الحياة فى مصر فأجبت، وفجأة ومن غير مقدمات طلب منى مذيع المهرجان، أن أغنى النشيد القومى، ولم أكن أعرف النشيد القومى، ولم أجد إلا أغنية أم كلثوم «هلت ليالى القمر» وغنيت جزءا منها بحماسة شديدة. وانتهت الأسئلة وعدت إلى مكانى لأجد المصريين قد تساقطوا من الضحك بسبب المطب الذى وقعت فيه، وأذكر أنى قلت هذه الحكاية لأم كلثوم، فكان ردها بسرعة: تفتكر، هل ألجأ إلى القضاء أطلب معاقبتك لأنك بهدلت المؤلف والملحن والمطربة؟! لم ينتبه المصريون إلى النقص الذى يعترى الحياة الوطنية، فى عدم وجود نشيد قومى يردده الشعب فى مناسباته المختلفة حتى عام 1908م، عندما زار وفد من رومانيا مصر ورافقهم عدد من نادى المدارس العليا، فأنشد الوفد الرومانى نشيدهم الوطنى.. وسأل البعض عن النشيد الوطنى المصرى.. وكانت المفاجأة أن البلاد ليس لها نشيد بعدها كتب الأديب على الغاياتى ديوانا للشعر اختار له عنوانا «وطنيتى» وقدم له الزعيم محمد فريد من بين أشعاره: «نحن للمجد نسير: ولنا الله نصير.. ليس يثنينا نذير.. عن بلاد تستجير وكان من الممكن أن تكون هذه المعانى والمفردات الوطنية هى أول نشيد وطنى لمصر وأول سلام لها، لولا أن السلطات الحاكمة حينئذ صادرت الديوان، فى محاولة للانقضاض على رموز الحركة الوطنية وأصدرت حكما بسجن الغاياتى لمدة عام وحبس محمد فريد لمدة نصف عام، ليكونا عبرة لمن تحدثه نفسه بتكرار محاولة كتابة نشيد وطنى، ولما اندلعت ثورة 1919م راحت الجماهير تبحث عن نشيد قومى، واختار أفراد الطبقة المثقفة «أغنية المارسيليز» أى النشيد القومى الفرنسى ثم أدركوا أنها بعيدة عن الأحاسيس الوطنية للمصريين. فكتب بديع خيرى نشيد «قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك» ولحنه سيد درويش ليصبح نشيد الثورة لكن الدولة لم تعترف به كنشيد رسمى للبلاد. ولما بنى بنك مصر دار التمثيل العربى بحديقة الأزبكية عام 1920، رأى الاقتصادى الكبير طلعت حرب أن يفتتحها بنشيد يتفق عليه كبار الشعراء. وتم إسناد مهمة كتابته لأمير الشعراء أحمد شوقى فكتب نشيدا مطلعه «بنى مصر مكانكمو قريبا.. قريبا مهدوا للمُلك هيا» ويبدو أن طلعت حرب لم تعجبه كلماته فقرر تنظيم مسابقة لاختيار نشيد آخر، وفاز فيها نشيد كتبه الشاعر محمد الهراوى ليكون النشيد الثانى بعد نشيد شوقى وكان مطلعه «دعت مصر فلبينا كراماً.. ومصر لنا فلا ندع الزماما» ومرة أخرى لم تعترف الحكومة لا بهذا ولابذاك ولم تسمح بإذاعتهما وانتشارهما، مما دفع الأستاذ عباس محمود العقاد (وهو شاعر كبير) لأن ينظم نشيدا ألقاه بدار الأوبرا عام 1934م ومطلعه: قد رفعنا العلم للعلا والغدا» لكن الحكومة لم تعترف به أيضا. وفى عام 1936م قررت الحكومة المصرية الاشتراك فى دورة الألعاب ببرلين، فرأى بعض المفكرين ضرورة عمل نشيد قومى تعترف به الحكومة رسمياً فصدر عن وزارة المعارف قرار جاء فيه نظرا لما للأناشيد القومية من الأثر القومى فى إيقاظ شعور الشعب حين يتناشدها فمصر فى حاجة إلى نشيد من هذا النوع، يلقى فى المناسبات القومية والدولية أسوة بالدول المتحضرة.. وبما أنه لا يوجد لمصر فى الوقت الحاضر نشيد قومى يعترف به رسميا، لذا دعت الوزارة إلى إجراء مسابقة لاختيار هذا النشيد القومى.. وفاز فيها نشيد كتبه الشاعر محمود محمد صادق ولحنه عبد الحميد توفيق زكى مطلعه «بلادى بلادى فداكى دمى.. وهبت حياتى فداً فاسلمى غرامك أول ما فى الفؤاد.. ونجواكى آخر ما فى فمى». واستقرت مصر على اختيار هذا النشيد القومى وردده شبابها فى برلين، مما شجع الملحن على تكرار تلحينه لقالب النشيد حتى أطلق عليه أهل الصنعة «الأناشيدجى» فلحن نشيد مصر القومى العسكرى ومطلعه «نحن السيوف المشرعات للعدا» من تأليفه وتلحينه قبل أن يكتب الشاعر فاروق جويدة «نشيد الجيش» الذى قام بتلحينه الموسيقار كمال الطويل ولحن محمد عبد الوهاب قصيدة «مصر نادتنا فلبينا نداها» كما لحن «أنت فى صمتك مرغم وغيرهما. وجاءت ثورة يوليو لتبحث عن نشيد قومى وسلام لمصر يعبر عنها.