هذه أمة تعودت على الأخطار وعاشت وتعايشت مع التهديدات من كل نوع .. حتى أن المواطن المصرى لم يعد يخشى شيئاً فالخطر يلاحقه دائمًا مع كل الخطوات التى يخطوها سواء فى الشارع أو داخل الأتوبيس أو فوق الكوبرى .. المواطن المصرى تعود على الأزمات .. أزمة فى رغيف العيش والسولار والبنزين حتى اختلطت الأزمات السياسية بالاقتصادية وصولاً إلى تأسيسية الدستور وأنف البلكيمى ومراهقة ونيس والشيخ كحة .. الشعب المصرى له تركيبة خاصة متفردة لن تجدها فى أى شعب آخر .. المصرى كما قال عالمنا ومفكرنا الكبير جمال حمدان – صبور غيور عنيد- استطاع العيش والتألق والازدهار فى عصور كثيرة عبر خمسة الآف عام كون فيها المصريون أول دولة عرفها العالم وقد ذكرت النقوش والبرديات أن المصرى القديم كون دولة متكاملة الأركان والسلطات من تشريعية وقضائية وتنفيذية وكان أول ذكر لمفهوم الدولة بوادى النيل كان قبل خمسة الآف عام من الآن .إن الجينات الوراثية للمصريين لابد أن بها صفات أخرى غير تلك التى قد نجدها فى أى شعب آخر. فعلى الرغم أن المصرى قد مر بعصور وحقب متباينة تنعم فيها برغد العيش وسهولة الحياة فأنتج حضارة تطورت عبر العصور المختلفة، حتى أصبحت مجموعة من الحضارات المتناغمة .. فالمصرى بطبيعته قادر على استيعاب الآخر بفكره وعقيدته حتى وإن اختلف معه .. وقد اثبتت لنا الاحداث التاريخية أن المصريين يستطيعون الاستمرار فى الحياة مع الأزمات الحادة والصراعات الدموية وما يعقب ذلك من نقص فى الطعام والشراب وانتشار الأوبئة .. حتى الكوارث الطبيعية والفيضانات وجفاف وزلازل استطاع المصرى عبر العصور المختلفة أن يتعايش ويتفاعل ويبدع حتى فى أسوأ الظروف . هذه حقائق حفظها لنا التاريخ والتى تحكى قصة الإنسان المصرى الذى يتمتع بقدرة على الاستيعاب موجودة فى جيناته الوراثية، جعلته يحتضن الحضارات والأفكار والعقائد.. ليس فقط استيعابًا بل تفاعل معها ليخرج لنا حضارة متفردة حية ومتعايشة ومتوافقة مع كل ما يستجد من تباين أو اختلاف، سواء كان فكريًا أو عقائديًا .. كل ذلك كون الشخصية المصرية المتفردة وهو صبور كما أن تمسكه بأرضه والحفاظ على تراثه وحماية مقدساته جعله غيوراً أما رفضه للظلم والعبودية وكفاحه من أجل الحرية جعل الإنسان المصرى عنيداً لا يقبل الضيم أو الذل مهما كان الثمن.. ولعل ذكر مصر فى الكتب المقدسة، حيث وصفها رب العزة بأنها واحة الأمن والأمان وأنها قبلة الركبان من الجائعين وطالبى الطعام من المحتاجين من أرض الجوار القريب والبعيد .. وفى قصة سيدنا يوسف التى ذكرها القرآن الكريم فى سورة «يوسف» كانت بدايتها. بسم الله الرحمن الرحيم «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن» صدق الله العظيم. أى أن قصة مصر فى سورة يوسف هى أحسن القصص فى القرآن الكريم .. فقد كانت مصر غنية مزدهرة وقوية يخطب ودها الجميع طلبا للحياة الكريمة ورغد العيش يأتى إليها التجار من كل مكان يتوددون إلى عزيز مصر أن يوفى لهم الكيل ويتصدق عليهم لأنه من المحسنين.. وقد كان سيدنا يوسف كما ذكر فى القرآن أميناً على خزائن الأرض – نعم خزائن الأرض – هكذا قالها الله عز من قائل. بسم الله الرحمن الرحيم «قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم» صدق الله العظيم. الآية 55 سورة يوسف .. وقوم موسى عندما لم يصبروا على طعام واحد قال لهم ربهم «اهبطوا مصر تجدوا ما سألتم .. لم يقل لهم اذهبوا إلى الشام أو فلسطين رغم أنها كانت اقرب من حيث المسافة .. الله قدر أن تكون مصر مأوى للجائعين وأمنًا للخائفين. ??? إن مصر دولة عظيمة عريقة كبيرة .. أكبر من أن يحكمها طامع أو يتحكم فيها مغرض أو صاحب هوى .. حتى الغزاة من أعتى وأكبر امبراطوريات العالم وقفوا أمام حضارة مصر بإجلال وتعظيم وخشوع لعلنا نذكر قصة دخول الإسكندر الأكبر إلى مصر وكيف أنه استراح على أرضها وأسس مدينته الشهيرة الإسكندرية، وقد ذكرت المصادر التاريخية أن الإسكندر استيقظ من نومه مسرورًا وأخبر معلمه «أرسطو» أنه شاهد فى حلمه رجلاً مصريًا طويل القامة يرتدى زى الكهنة لكنه محارب وأن هذا الرجل حذره من أن يؤذى المصريين ولا يعبث بالمعابد ولا يخرب الزرع ولا يلوث النيل .. وقال له المصرى إن اردت العيش فلترحل بسلام !! هكذا كان حلم الاسكندر الأكبر أعظم ملوك التاريخ وقف بإجلال أمام الأراضى المصرية واحترم المصريين ومقدساتهم، بل قال عنهم الاسكندر الاكبر «عندما دخلت مصر رأيت ما ابهرنى وسمعت ما سرنى وأحسست بالنشوة تغمر جسدى بالفرحة والسعادة وكأننى تصالحت مع نفسى». يا الله.. هكذا قال أعظم ملوك العالم عن مصر وشعب مصر . إن مصر لم تستعص فقط على الغزاة والطامعين، بل حازت اعجابهم واحترامهم ولعل كلمة المؤرخ المصرى «مانيتون السمنودى» إن مصر لا يهزمها أحد وإن اراد أحد أن يغزوها فليكن الغزو من «الداخل» وليس من الخارج – وكأن الرجل اراد أن يقول إن هزيمة مصر لن تكون إلا بأيدى المصريين بأنفسهم – وكأن اليوم كالبارحة فإشاعة جو الفتنة وأحداث الوقيعة بين فئات الشعب المختلفة هى أقرب الطرق نحو السقوط . لقد قال اللورد « الليمبى» المندوب السامى البريطانى بعد حادثة دنشواى الشهيرة والتى اطاحت به وبسمعته وفضحت بريطانيا العظمى، لقد قال هذا الرجل: سوف انتقم من المصريين بأن اجعل ملف الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط مفتوحًا دائمًا وسوف انصح كل من يأتى بعدى أن يجعل هذا الملف نصب عينيه يستخدمه حين تكون الظروف مهيأة لإحداث الفتنة.. لكن هيهات هيهات.. إن كل من اقترب من حصن الوحدة المصرية والنسيج المصرى القوى رد كيده إلى عنقه .. إن كل من فكر فى احداث فتنة بين المصريين منى بالفشل الذريع .. إلا أن اعداء الأمة والحاقدين لا يزالون يحاولون زرع الفتن وإطلاق الشائعات لعلهم ينجحون فى إحدى محاولاتهم . إن الخطر الحقيقى على مصر، يأتى من الداخل وليس من الخارج قد علمنا التاريخ أن اخطار الخارج لا ترهبنا ولا تخيفنا لأننا نعرف كيف نرد كيد المعتدين ونهزم الغزاة .. إن المصرى بتكوينه الحضارى وبفكره التراكمى والذى ورثه عبر آلاف السنين على أرض هذا الوادى، جعله يدافع عن أرضه ويحافظ عليها ويواجه الخطر بكل شجاعة ولا يحسب لحياته حساباً ما دامت مصر حية وباقية، وكما قال الراحل البابا شنودة الثالث: إن مصر وطن يعيش فينا قبل أن نعيش فيه.. ??? لقد قال لى أحد أكبر اساتذة التاريخ القديم وكان يعمل مديرًا للمتحف المصرى فى السبعينات من القرن الماضى وهو الدكتور هنرى رياض أستاذ علم المصريات.. إن كل الامبراطوريات القديمة إذا ارادت اختبار قوتها كانت تأتى إلى مصر فإن استطاعت الغزو والسيطرة استمدت قوة على قوة من الأرض المصرية والمصريين فإن انقلب عليها المصريون اندثرت ولم يعد لها وجود إلا فى كتب التاريخ . إن المصرى بطبعه لا يخشى الخطر الخارجى لأن ثقته بنفسه فى الدفاع عن أرضه جعلته يحتاط دائمًا ضد الغزاة فلم يستطع أى ملك أو امبراطور أن يضم مصر إلى مملكته منذ فجر التاريخ وحتى الآن فقد حاول « أبو فيس» ملك الهكسوس فاندثر ولم يعد له وجود ومن بعده أتى قمبيز امبراطور الفرس والذى غرق هو وجيشه فى بحر الرمال الأعظم فى الصحراء الغربية ولا الاسكندر الأكبر المقدونى ولا أكتافيوس اغسطس الرومانى ولا جوستنيان البيزنطى ولا ريتشارد قلب الأسد الانجليزى ولا لويس التاسع الفرنسى ولا هولاكو المغولى التترى ولا قائد جيوشه « كاتوبغا» كل هؤلاء حاولوا النيل من مصر فاندثروا وبقيت مصر وفى العصر الحديث لا حملة نابليون ولا حملة فريزر ولا العدوان الثلاثى كل هؤلاء أصبحوا مجرد اسماء فى موسوعة تاريخ مصر . وأكرر أن الخطر الحقيقى يأتينا الآن من الداخل، فالعبث الذى تمارسه الجماعة الاستحواذية اصبح كالسرطان تتكاثر خلاياه فى جسد الأمة المصرية منذرة بتدمير كل ما يعترض طريقها بالسيطرة، إضافة إلى الآلة الدعائية للجماعة التى تحترف إشاعة الفتن، فهؤلاء لم ولن يتواصلوا أو يتواءموا أو يتناغموا مع المجتمع المصرى لأنهم نبت شيطانى مارق لا يضع مصر ضمن اولوياته إلا من خلال المنظومة العالمية التى يهدفون إلى تحقيقها ولعل مقولة مرشدهم السابق «مصر وأبو مصر» أكبر دليل على ذلك، أما ما قاله الداعية الاخوانى المزعوم من أن عاصمة مصر فى فلسطين، فهو العبث بعينه والذى يعنى أن هؤلاء قد فقدوا الولاء والانتماء إلا لجماعتهم .. ولا يبقى إلا أن نقول قولة شاعر النيل العظيم: درة الشرق رعاك الله ما دام وجوده.