منذ فجرَّ السوفيت قنبلتهم الذرية الأولى، جن جنون المخابرات الأمريكية، التى اتهمها الشعب الأمريكى كله، بأنها لم تستطع الحفاظ على أعظم سر، فى تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية بأكمله، ولم تشعر بشىء من الارتياح، حتى ألقت القبض على شبكة تجسًَّس سوفيتية، اعترف أحد افرادها، وهو (جرين جلاس) بأنه قد سلًَّم مخطوطات القنبلة الذرية لزوج شقيقته (جوليوس روزنبرج)، الذى أخبره أنه سيرسلها إلى (الأصدقاء الروس)، على حد قوله .. وفى اليوم التالى مباشرة، تم اعتقال (جوليوس)، الذى أصيب بالدهشة والفزع، وأقسم للمحققين أنه لم يسمع عن القنبلة الذرية، حتى أسقطت على (اليابان)، ولكن المحققين واجهوه باعتراف (جلاس)، الذى أنكره تماماً، وأصرًَّ على إنكاره .. وعلى الرغم من هذا، فقد تم إلقاء القبض على زوجته (ايثيل) بعد ستة أيام، وعلى الرغم من فرار (مورتون سويل) إلى (المكسيك)، فقد قامت المخابرات الأمريكية بعملية محدودة، وتم اختطافه، وإعادته إلى الولاياتالمتحدة، عبر الحدود الشمالية، وإن كان الإعلان الرسمى قد أشار إلى اعتقاله فى (لاريدو) بولاية (تكساس).. وتم توجيه التهمة لكل من (جرين جلاس) و(جولد)، و(سويل)، بالإضافة إلى (جوليوس)و (إيثيل روزنبرج)، (أما (روث)، زوجة (جرين) فلم يوًَّجه إليها أى اتهام، على الرغم من إفادة زوجها بأن (جوليوس) قد أرسلها إلى قاعدة (لوس آلاموس)؛ لإقناعه بالتجسس، وبعد عدة سنوات، ومع نشر وثائق القضية، تبيًَّن أن المدعى العام- حينذاك- (جون روج)، قد عقد اتفاقاً مع (جرين)، باستثناء زوجته من الاتهام، مقابل شهادته ضد زوج شقيقته (جوليوس) .. وعلى نحو عجيب، دارت القضية الكبرى، وشهدت تطوًَّرات غير طبيعية، فبعد أن كانت إفادة (جرين) خالية، من أى اتهام لشقيقته (ايثيل)، عاد هو وزوجته يقرّان بأنها من قامت بطباعة المعلومات، التى سيتم إرسالها إلى الروس، ولقد كشفت إحدى الوثائق فيما بعد، أن (إدجار هوفر)، مدير المباحث الفيدرالية الأمريكية، قد ورًَّط (إيثيل) عمداً فى القضية؛ حتى يدفع (جوليوس) إلى الاعتراف بوجود جواسيس آخرين، وكل هذا بسبب رسالة لاسلكية تم اعتراضها، من السفارة الروسية، تقول: إن زوجين يعملان كفريق تجسًَّس ناجح فى (نيويورك)، ولسبب غير مفهوم، لم يحاول شخص واحد التفكير فى احتمال أن تشير تلك الرسالة إلى الزوجين (جلاس)، وليس إلى الزوجين (روزنبرج)!!!..ولقد أصرًَّ (جوليوس) و(إيثيل روزنبرج) على نفى التهمة طوال الوقت، فى حين اعترف الباقون بها، ورفضا إجابة سؤال المدعى العام، عن كونهما يعتنقان الفكر الشيوعى، فى حين أكًَّد محاميها أن (جرين جلاس) جاسوس مرتزق، من الطراز الذى يعمل من أجل المال وحده، وأنه مستعد لدفن أخته وزوجها؛ حتى ينجو بجلده من العقاب .. وعلى الرغم من مرافعة الدفاع، ومن أدلة الاتهام الواهية، والاعتماد على شهادة رجل اعترف بالتجسًَّس، فقد حصل كل المتهمين على أحكام متوًَّسطة الشدة، فيما عدا (مورتون سويل) والزوجين (روزنبرج)، فقد حكم على (سويل) بالحد الأقصى للسجن- آنذاك- وكان ثلاثين عاماً، دون إمكانية الإفراج المبكًَّر، تحت أية ظروف، فى حين جاء الحكم على الزوجين (روزنبرج) بالإعدام، باعتبار أن جريمتهما تفوق حتى جرائم القتل المعتادة، وربط القاضى بين تسريب أسرار القنبلة الذرية، وعدوان الاتحاد السوفيتى على (كوريا)، والذى راح ضحيته خمسون ألف شخص، كما قال إن تسريب أسرار القنبلة الذرية، قد يعنى موت الملايين فيما بعد .. وعندما تم نقل (جوليوس) و(إيثيل) إلى السجن، تمهيداً لإعدامهما، راحت (ايثيل) تغنى مقطعاً من الأوبرا، يقول: إن غداً سيعود جميلاً، وصفقًَّ لها (جوليوس) فى حرارة، وطلب منها أن تغنى مقطعاً آخر، صفق لها كل السجناء بعده طويلاً.. ولقد تقدًَّم محامى الزوجين (روزنبرج) بالتماس للرئيس (دوايت ايزنهاور) ثلاث مرات؛ لتخفيف الحكم عنها، إلا أنه رفض فى إصرار، على الرغم من أن العالمين (هارولد يورى) و(ألبرت أينشتين)، الفائزين بجائزة (نوبل)، قد نشرا عدة رسائل فى الصحف، تشكًَّك فى نتائج التحقيقات، باعتبار أن المعلومات، التى نسب تسريبها إلى الزوجين (روزنبرج)، لم تكن تكفى وحدها؛ ليصنع السوفيت قنبلتهم الذرية، إلا لو كانت أبحاثهم شبه مكتملة بالفعل، وأكّد (أينشتين) أن أوراق التحقيقات جاءت متجنية بشدة على الزوجين (روزنبرج)، وأنه من غير المنطقى أن يكافأ جاسوس بالسجن لمدة محدودة، فى حين يعامل آخر بكل هذا التعًَّنت، على التهمة نفسها، إلى حد يصل إلى الحكم عليه بالإعدام!!.. ولقد امتدًَّت الشكوك إلى قطاع عريض من الأمريكيين، حتى أن وفداً يمثل ألفين وثلاثمائة كنيسة أمريكية، من مختلف الطوائف، قد زار الرئيس الأمريكى، مطالباً بتخفيف الحكم عن الزوجين (روزنبرج)، إلا أنه رفض تماماً، وأصرًَّ على حكم الإعدام، ولم يشفع له مشهد زيارة طفليهما (ميشيل) و(روبيرت) لهما، واللذين لا تزيد أعمارهما عن أربع وثمان سنوات، ولا الدموع الغزيرة، التى ذرفت فى كل زيارة، وتم رفض كل الالتماسات، ليتأييًَّد الحكم بالإعدام، ويتحدًَّد له يوم الثامن عشر من يونيو عام 1963م.. ومن عجائب القدر، أن هذا اليوم ذكرى عيد زواجهما الرابع عشر، فتم تأجيله ليوم واحد، ليتم إعدامهما بالفعل، فى التاسع عشر.. أسوأ ما فى هذه القصة كلها، أنه بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، ونشر العديد من وثائقه، التى كان نشرها محظوراً من قبل، تبيًَّن أن الزوجين (روزنبرج) لم يتجسسا أبداً لحساب السوفيت، على الرغم من إعجابهما بالإنجاز السوفيتى فى الحرب العالمية الثانية، ولم يكن لهما أدنى دور، فى تسريب أسرار القنبلة الذرية إليهم!!.. وبهذا انكشف الفشل الذريع للمخابرات الأمريكية، التى ارتكبت الكثير من التجاوزات، وضحت بزوجين بريئين، وحكمت على طفليهما باليتم والعار، فقط حتى تحفظ ماء وجهها، أمام الشعب الامريكى، الذى لم يتخلًَّص من حمى (الرعب النووى)، وإنما حوًَّلها إلى اتجاه آخر.. تماماً.