تاريخ الكنيسة المصرية الذى يقارب ألفى عام، كان بين مد وجذر، سكون وحركة، شدة وليونة، إنه تاريخ لم يخل من فترات اضطهاد قد آرخ لها بتقديم خاص، لكن فى كل الأحوال فقد كانت كنيسة مصرية دما ولحما.. عقيدة وفكرا.. تراثا وتاريخا. فهى وطنية على الدوام «فالكنيسة» بإجماعها وتراثها كجماعة مؤمنين لم تخن ولم تكن ضد الوطن أبدا، ولذا فهى تراث مصرى وهى ملكية مصرية لكل المصريين.. وذلك لأن شخصية البابا شنودة الثالث ذات طبيعة خاصة فقد جمع بين الدين والثقافة وقوة الشخصية.وقداسة البابا شنودة الثالث، قاد النهضة الجديدة فى الكنيسة المصرية، يجمع فى وقت واحد بين إحياء التقاليد العريقة فى كل ما يمس المجتمع وهو البابا الذى كرس عروبة المسيحية الشرقية بحكم تكوينه الأدبى العربى وبحكم وعيه القومى العميق وهو الأمر الذى لم يمنعه من الحوار فى جميع التيارات الفكرية العالمية. ومن بين ما سيذكره التاريخ للبابا شنودة أنه البابا الذى حرّم على مواطنيه زيارة القدس بعد احتلالها من إسرائيل، وفتح بذلك صفحة الخصومة المريرة بينه وبين عهد كامل من السياسة المصرية.. بل بينه وبين قوى أجنبية نافذة إقليمية ودولية. أيضا مقولته الشهيرة: إن مصر ليست وطنا نعيش فيه.. بل هى وطن يعيش فينا. اختاره قداسة البابا المتنيح كيرلس السادس أسقفا للتعليم والكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية والتربية الكنسية فى عام 64 وأصبحت تضم القسم النهارى العالى، والقسم النهارى المتوسط، والقسم المسائى الجامعى. وقد ارتفع فى عهد قداسته عدد أفرع الإكليريكية إلى عشرين فرعا منها ثمانية فى الوجه البحرى، وأربعة بالوجه القبلى، وثمانية خارج مصر ويدرس بها عدد كبير من الآباء، والأساقفة، والكهنة، والعلمانيين من ذوى الخبرة، والدراسة العالية والمتميزة من حملة الدكتوراه والماجستير، تخرج فيها آلاف من الطلبة الذين سيم بعضهم كهنة والبعض الآخر يخدمون كخدام متطوعين فى الكنائس، كما ناقشت العديد من رسائل الدكتوراه ورسائل الماجستير فى العلوم اللاهوتية والعقيدية الكتابية والآبائية والطقسية. كما نهض قداسته بمعهد الدراسات القبطية الذى تأسس عام 1954 والذى يدرس العلوم اللاهوتية والاجتماعية والإرشاد الروحى والإرشاد الأسرى واللغة القبطية والعمارة والآثار والفن القبطى. ونتيجة لجهود قداسته فى التعليم فقد حصل على ثمانى شهادات دكتوراه من جامعات العالم المختلفة. كما حصل قداسته على جائزة أفضل واعظ ومعلم للدين المسيحى لسنة 1978 من مؤسسة برونتيج الأمريكية، وهذه المؤسسة يجتمع فيها كل عام مجموعة من الخبراء العالميين والقادة الدينيين المشهود لهم لاختيار أفضل شخص قدم خدمة لنشر التعليم المسيحى. أما فى مجال الوحدة المسيحية فقد قام قداسته بأعظم إنجاز فى التاريخ، حيث تم الوفاق بين الطوائف المسيحية الأربع الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت والإنجليكان فى موضوع طبيعة المسيح والذى حدث بسببه الانشقاق المسكونى فى مجمح خلقيدونية سنة 541 م وظل هذا الانشقاق قائما برغم عشرات المحاولات التى بذلت لانتهائه عبر القرون، ومع ذلك لم يكتب لها النجاح. وقد قام قداسته بزيارة كل من ريمتريوس الأول بطريرك القسطنطينية 1972، والبابا بولس السادس بابا روما عام 1973، كما اجتمع مع الإنجليكان، واللوثريين، وتمت على يده الوحدة المسيحية من جهة الإيمان بطبيعة المسيح، ومن ثم أنهى خلافا استمر حوالى ألف وخمسمائة وخمسين سنة. ولد قداسة البابا شنودة الثالث فى 3 أغسطس عام 1923 فى أبنوب بمحافظة أسيوط وكان اسمه العلمانى نظير جيد روفائيل.. وبعد اتمام دراسته بكلية الآداب قسم التاريخ بجامعة القاهرة عام 1947، وكلية الضباط الاحتياط وتخرجه فى الكلية الإكليريكية عام 1947، عمل فى البداية كأستاذ فى نفس الكلية، وفى عام 1954 بدأ حياة الرهبنة بدير السريان بوادى النطرون باسم الراهب أنطونيوس، وكان مشرفا على مكتبة الدير وعاش حياة النسك والتوحيد لفترة فى الصحراء. وفى عام 1955 أصبح كاهنا، وفى عام 1964 رسمه البابا كيرلس السادس أسقفا باسم الأنبا شنودة (نسبة إلى الراهب المصرى القديم والقديس من القرن الخامس) بعد أن كان السكرتير الخاص لقداسته، وأصبح أسقفا للتعليم الدينى والتربية الكنسية، وفى نفس الوقت مديرا للكلية الاكليريكية ومسئولا عن المعاهد الدينية القبطية ومؤسساتها فى القاهرة، خاصة عن مدارس الأحد التى كان يخدم بها منذ كان عمره 16 عاما والتى أصبحت مكانا مفضلا له للتعليم الدينى والعمل الدعوى. إن عظات قداسته الأسبوعية ومحاضراته الروحيةومؤتمراته تجذب إليها كل مرة حوالى سبعة آلاف من المؤيدين إذ يجتمع الشباب والرجال والنساء والشمامسة والكهنة للاستماع إليها فى كاتدرائية القديس مرقص بالقاهرة. وقد استمر قداسته فى إلقاء هذه المحاضرات والعظات والنشاطات التعليمية فى القاهرة، وفيما بعد أيضا فى الإسكندرية بعد اختياره رئيسا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية وبطريركا لها وحتى وفاته. وفى عام 1971 شارك كمندوب عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى المباحثات المسكونية بين العلماء اللاهوت من الكنائس الشرقية الأرثوذكسية وعن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية فى إطار مؤسسة أورينتا (التقارب مع الشرق) فى فينا. وفى شهر سبتمبر 1981 حدد الرئيس الراحل أنور السادات إقامة قداسة البابا شنودة الثالث فى دير الأنبا بيشوى، وفى نفس الوقت تم اعتقال 8 أساقفة من الأقباط، و24 كاهنا، وحوالى ألف وخمسمائة من الشمامسة، وكانت فترة بقاء البابا فى الدير فترة نشاط روحى وأدبى مثمر. وفى بداية عام 1985 ألغى تحديد إقامة البابا شنودة الثالث وعاد ليرأس حفلات عيد الميلاد يوم 7 يناير من كل عام، ويذكر أنه عندما كان طالبا فى كلية الضباط الاحتياط بالقوات المسلحة فى شهر رمضان كان هو الذى يشرف على طعام الكلية، وهو الذى كان يوقظهم لتناول طعام السحور. علاقات البابا شنودة برجال الدين المسلمين ليست علاقات رسمية.. بل فيها مساحات كثيرة من الود، وقد سافر البابا شنودة الثالث مع المرحوم الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر السابق إلى أبو ظبى لحضور مؤتمر عن القدس، وقد لفت نظر الحاضرين أنهما أصدقاء.. ودائما ما كان فكرهما واحدا- على حد قول البابا شنودة الثالث. العلاقة الأكبر فى حياة البابا شنودة كانت مع الشيخ محمد متولى الشعراوى، وعندما كان الشيخ الشعراوى مريضا فى إحدى مستشفيات لندن، اتصل البابا ببعض الكهنة هناك وطلب منهم زيارته، واتصل بالطبيب المعالج وهو مصرى قبطى وأوصاه بأن يتفرغ لعلاج الشيخ الشعراوى، وعندما عاد الشعراوى زار البابا شنودة وقال له: أولادك فى لندن طوقوا عنقى. أثناء زيارات البابا شنودة للخارج كان يحرص دائما على زيارة المساجد والمراكز الإسلامية والالتقاء بشيوخها، وعندما طلب منه الأقباط فى استراليا تكوين اتحاد لهم قال لهم البابا: يجب أن يكون هذا الاتحاد للمصريين المهاجرين جميعا مسلمين وأقباطا.. واتفق معهم على أن تكون الاجتماعات فى مقر جمعية أبو بكر الصديق. وفى سوريا زار البابا شنودة مسجد أبو النور فى دمشق والتقى فيه بالشيخ قفتارو مفتى سوريا وألقى محاضرة كان لها طابع الدين والسياسة معا، وكان المسجد ممتلئا وهو من سبعة طوابق، كان الحاضرون 120 ألفا من المسلمين واستقبلوه مع الآباء البطاركة والمطارنة بترحيب كبير.. وهذا أيضا حدث فى لبنان، حتى إن مفتى لبنان قال له: أنت لست بابا الأقباط.. أنت بابا العرب.