فجأة.. أصبحت أجهزة الإعلام الرسمية وفى مقدمتها التليفزيون والصحف القومية.. كالأيتام على موائد اللئام.. فالبعض يطالب بتطهيرها.. والعاملون فيها يتظاهرون ضد قيادتها.. والإخوان يدرسون تصفيتها وكأنها مصانع لإنتاج مساحيق الغسيل أو مطاعم لبيع الفول والطعمية!. والغريب أن كل ذلك يحدث فى غياب أصحاب الشأن.. وهم الصحفيون والإعلاميون الذين يواصلون الليل بالنهار فى عمل مضن يراعون فيه الله وضميرهم لتوفير حق القارئ والمشاهد فى الحصول على الخبر الصادق والتحليل العميق المتوازن لما يجرى من حوله داخليا وخارجيا.وإذا كان البعض يطالب بتطهير «الإعلام» من العاملين فيه.. وكأنهم «خوارج» العصر أو «ميليشيات» الحزب الوطنى المنحل.. فقد فاجأنا حزب الحرية والعدالة.. الجناح السياسى لجماعة «الإخوان» برغبته الملحة فى تصفية المؤسسات الصحفية القومية.. وكأنها عورة لابد من التخلص منها وبحجة التطوير والتحديث، زف إلينا الحزب بشرى الانتهاء من إعداد دراسة لمشروع تطوير المنظومة الإعلامية.. تتضمن هيئة للتليفزيون ومجلسا وطنيا للإعلام.. ومكتبا للإعلام الخارجى.. بخلاف إعادة النظر فى ملكية الصحف القومية. وبالطبع لم ينس الحزب أن يشير إلى أن دافع الدراسة هو أهمية الإعلام بكافة وسائله فى تدعيم قيم المجتمع وترسيخ هويته ونشر العلم والثقافة، ودعم مفاهيم ومشاعر الانتماء وإحياء الروح الوطنية وخلق التسامح ورفض التعصب والتخلف.. وتأصيل مبدأ المواطنة فى التعامل مع قضايا المجتمع، وهو كلام جميل.. «مقدرش أقول حاجة عنه».. غير أنه بحر إنشاء.. وتكرار لمقدمات التشريعات الإعلامية الحالية.. ومن ثم فهو يمثل «إعادة اختراع العجلة».. كما أنه حق يراد به باطل.. وهو الهيمنة الحزبية على الإعلام القومى المملوك للشعب بكافة فئاته والمعبر عن كافة اتجاهاته الفكرية وانتماءاته السياسية. فالمادة الأولى فى قانون سلطة الصحافة 148 لسنة 80 تنص على أن الصحافة سلطة شعبية مستقلة تمارس رسالتها بحرية فى خدمة المجتمع تعبيرا عن الرأى العام وإسهاما فى تكوينه وتوجيهه بمختلف وسائل التعبير، وذلك فى إطار المقومات الأساسية للمجتمع والحفاظ على الحريات والحقوق والواجبات العامة واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين. ليس ذلك فقط.. بل إن حرية الصحافة- كما ورد فى المادة الثانية- تستهدف تهيئة المناخ الحر لنمو المجتمع بالمعرفة المستنيرة والإسهام فى الترشيد للحلول الأفضل فى كل ما يتعلق بمصالح الوطن والمواطنين. هذا ما وصفه الآباء المؤسسون.. فماذا يريد الأحفاد الطامحون؟.. مثلا فى التليفزيون.. تشكيل مجلس أمناء حقيقى مستقل عن الحكومة يرسم سياسة القنوات ويراقب تنفيذها.. على أن يتم اختيار أعضائه من قبل مجلس الشعب! وبالنسبة للصحف القومية.. تصفية المؤسسات الصحفية (الحكومية) ببيعها أو نقل ملكيتها لهيئات عامة أو تملك العاملين فيها، مع تغيير قانون الصحافة، وإلغاء المجلس الأعلى للصحافة ونقل اختصاصاته لنقابة الصحفيين. أولا.. تعبير الصحف والمؤسسات الصحفية الحكومية تعبير خاطئ.. لأن تلك المؤسسات وطبقا لقانون الصحافة ليست مملوكة للحكومة.. وليس لدى الأخيرة سلطان عليها، إنما هى- طبقا للمادة 22 من القانون المذكور- مملوكة ملكية خاصة للدولة.. ويمارس حقوق الملكية عليها مجلس الشورى أى أنها مملوكة للشعب باعتبارها أموالا عامة ذات طبيعة خاصة.. ومجلس الشورى- وهذا خطأ شائع- لا يملكها، إنما يمارس حقوق الملكية عليها نيابة عن الدولة.. باعتباره أولا مؤسسة ذات شخصية اعتبارية منتخبة من الشعب.. كما أنه ليس جزءا من السلطة التنفيذية.. وإنما أحد جناحى السلطة التشريعية (البرلمان). فالصحف القومية ليست مملوكة لأحزاب أو أفراد.. ولذلك جاء تسميتها بالقومية لأنها مملوكة للشعب بكل طوائفه، كما أنها عامة وليست متخصصة.. وتوزع فى جميع أنحاء الجمهورية.. بل تعبر عن مصر كلها داخليا وخارجيا. هذا بخلاف الصحف الحزبية والتى تملكها وتصدرها الأحزاب وتعبر عن سياستها وتدافع عن توجهاتها.. وأيضا بخلاف الصحف الخاصة التى نظم القانون إصدارها فى صورة شركات مساهمة، ولكنها فى كل الأحوال مملوكة لأفراد وتعبر عن مصالحهم وتحمى حقوقهم إن وجدت! وأعتقد أن الكل يعلم بما فيهم معدو دراسة الحزب.. أن لدينا فى مصر صحفا حزبية وأخرى خاصة، وكذلك قنوات فضائية حزبية وخاصة.. فلماذا إذن الرغبة الملحة فى تصفية المؤسسات الصحفية القومية التى تعبر عن مصر كلها، وتحقق التوازن الإعلامى بين كافة اللاعبين فى الشارع السياسى؟. وأعتقد أيضا أن حزب الحرية والعدالة لديه صحف خاصة تعبر عنه، وكذلك قنوات فضائية تنتمى إليه.. فلماذا الرغبة الملحة فى الاستحواذ على الصحف والقنوات العامة؟. وهل يجوز لحزب واحد فاز بأغلبية معينة فى انتخابات برلمانية أن يتصرف منفردا فى ملكية عامة بعيدا عن المالكين الحقيقيين لهذه المؤسسات.. وهم جموع أبناء الشعب المصرى الذى ينوب عنهم فى إدارة ممتلكاتهم مجلس منتخب منهم؟!. إن الممارسات السياسية لأحزاب قديمة أو جديدة يمكن الخلاف معها.. بل إنها قابلة للتغيير، ولكن لا يجوز أن تدفع المؤسسات العامة الثمن.. وأن يكون هذا الثمن هو تصفيتها ببيعها لمن يملك الأموال.. وهم فى تلك الحالة معروفون ومتوقعون فهل نخرج من احتكار الوطنى المنحل للإعلام لندخل فى احتكار الإخوان له؟ وهل العيب فى المؤسسات الصحفية القومية أم فيمن كان يمارس الضغوط السياسية عليها، وكذلك فيمن تولوا إدارتها فى الفترة السابقة وكبدوها بالديون وأرهقوها بالعمالة الزائدة.. وأفقدوها مصداقيتها لدى القارئ بسبب انحيازاتهم السياسية أو الفكرية السابقة؟. فمن المعروف أن القانون وضع نظاما إداريا محكما للإدارة الذاتية للمؤسسات الصحفية القومية من مجلس إدارة منتخب وجمعية عمومية للحساب، فضلا عن مراقبة الجهاز المركزى للمحاسبات لأوجه صرف الأموال وعوائد الأنشطة. فالعيب.. لم يكن أبدا فى تلك المؤسسات ولا فى القوانين واللوائح المنظمة لعملها، ولكنه- والكل يعلم- كان فى المناخ السائد والذى قامت ثورة الشباب لتغييره.. فلماذا يرغب البعض فى تكرار الأخطاء والعودة للخلف. ??? كلنا نعلم أن مواسم الحج والعمرة تشهد العديد من حوادث السرقة.. فهل الحل أن نلغى الحج أم نوقف زيارات العمرة؟. كذلك المؤسسات الصحفية القومية توفر لها إدارة ذاتية من أبنائها.. وجهازا قوميا لمراقبة أموالها.. فالعيب إذن كان فى الإدارة ولم يكن فى المؤسسات نفسها التى يرغب البعض حاليا فى الانتقام منها.. أو الاستحواذ عليها!. كذلك المجلس الأعلى للصحافة المراد إلغاؤه.. فمن المعروف أنه يتكون من رؤساء مجالس إدارة الصحف القومية ورؤساء تحريرها مع بعض الشخصيات العامة والقانونية ذات الصلة بقطاع الصحافة والإعلام.. وهو مجلس أريد به مساعدة تلك المؤسسات إداريا وماديا.. مثل التنسيق فى بعض المشروعات أو توزيع حصص الورق.. أى أنه بمثابة جمعية عمومية يتم التشاور فيها والتنسيق لأفضل ما يمكن القيام به فى إدارة تلك المؤسسات المملوكة للشعب. فإذا كان البعض لم يقم بعمله كما يجب.. أو أو تخاذل أو فشل.. فيجب ألا تدفع المؤسسات الثمن.. ويكون الثمن هو الإلغاء. على أية حال فقد بادرت نقابة الصحفيين بعقد ورش عمل واستماع حول هذا الموضوع لبحث تعديل التشريعات المنظمة للعمل الصحفى مثل قانون النقابة وقانون تداول المعلومات وغيرهما من الموضوعات ذات الصلة. ولكن المشكلة سوف تظل فى حسن تطبيق القانون وتفعيل المؤسسات الحالية كمجالس الإدارات والجمعيات العمومية.. وأيضا حسن اختيار القيادات سواء لمجلس الإدارة أو رئاسة التحرير.. ولعل الاتجاه الأخير فى اختيار تلك القيادات بالانتخاب من بين العاملين فى كل مؤسسة يكون سبيلا عمليا للإصلاح. وهنا أقترح أن ينتخب العاملون فى كل مؤسسة ثلاثة مرشحين للمناصب القيادية فيها سواء لمجلس الإدارة أو رئاسة التحرير.. وأن تقوم لجنة خاصة بمجلس الشورى بإجراء مقابلات مع هؤلاء المرشحين وتطلع على خبراتهم وتستمع إلى مقتراحاتهم وخططهم فى الإدارة والتطوير.. ثم تترك الأفضل منهم ليتم تعيينه من قبل رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب.. على أساس أن هذه أموال الشعب وهو نائب عنه فى اختيار من يدير أملاكه، إلى جانب تفعيل أدوات الرقابة والمحاسبة.. وأن يتم تغيير من يفشل أو يقصر فى عمله. والخلاصة مرة أخرى.. العيب لم يكن فى المؤسسات الصحفية القومية.. ولكنه كان فى المناخ السائد من قبل.. وكذلك فيمن تولوا إدارتها أو من غفلوا عن رقابتها ومحاسبة المسئولين عنها.