منذ اللحظة الأولى، التى وقع فيها بصر(رفعت الجمًَّال)، على صورة (كامل أمين ثابت)، كمدنى منفرد وسط مجموعة من العسكريين، حتى ربط عقله على الفور، بينه وبين رفيق زنزانته السابق (إيلى حوفى كوهين)، الذى لم يتغيًَّر فيه سوى شارب شرقى، أضيف إلى ملامحه؛ ليمنحه مظهراً شامياً تقليدياً ... وعلى الفور، طلب (رفعت) مقابلة عاجلة، مع احد ضباط المخابرات المصرية، الذى التقى به فى (روما)، وهناك سلمًَّه (رفعت) نسخة من الصحيفة، وأشار إلى صورة (كامل)، وأكًَّد أنه يعرفه باسم (إيلى كوهين)... وعاد رجل المخابرات بالمعلومة إلى (مصر)، وسحب ملف (إيلى)، وأيقن الكل أنه بالفعل ليس سورياً كما يدًَّعى، ولكنه يهودى إسرائيلى، وكان الموقف شديد الحساسية بالفعل، فالرجل يحوز ثقة حزب البعث وقياداته، ومرشًَّح لمنصب نائب وزير الدفاع فى سوريا، وهو شخصية سياسية وإجتماعية مرموقة، ليس من السهل اتهامها بمثل هذا الاتهام، دون أدلة قاطعة حاسمة ... وبعد اجتماع مع الرئيس (جمال عبد الناصر)، الذى هاله أن يكون المرشًَّح الأوًَّل لمنصب نائب وزير الدفاع السورى جاسوساً إسرائيلياً، حمل (صلاح نصر)، مدير المخابرات المصرية حينذاك، ملف (إيلى كوهين) بنفسه، ليضعه بين يدى الرئيس السورى شخصياً ... وكانت صدمة رهيبة، ليس للرئيس السورى وحده، ولكن لمدير مخابراته، وكل المقربين منه بلا استثناء، وخصوصاً القادة العسكريين، الذين كاد الرجل يصبح نائب وزيرهم، بعد وقت قليل .... كانت المخابرات السورية آنذاك، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، تتابع بثاً لاسلكياً مشفّراً، وتحاول، بالأجهزة المتاحة فى ذلك الحين، تحديد موقع البث بالضبط، ولكن كل ما توصًَّلت إليه هو تحديد الحى، الذى ينبعث منه البث، وإن لم يخطر على بال مخلوق واحد، أن يكون مصدره هو منزل (كامل أمين ثابت)، الذى يقيم فى شقة فاخرة، فى ذلك الحى ... ومع المعلومات الجديدة، وعندما تمت مداهمة منزل (إيلى)، برجال المخابرات السوريين، ووكيل نيابة عامة، ثار الرجل وهاج وماج، وهدًَّد وتوعًَّد، خاصة أن عملية التفتيش لم تسفر فى البداية عن العثور على جهاز اللاسلكى المنشود، ولكن يقظة أحد رجال المخابرات السورية، جعلته يلاحظ ميلاً خفيفاً، فى إطار ستارة النافذة الرئيسية، وبتفتيشه، ثم العثور على جهاز الاتصال اللاسلكى داخله، مخفياً بمهارة حرفية، وكان دليل الإدانة الرئيسى، الذى حسم الأمر كله ... وانهار جهاز المخابرات الإسرائيلى، عندما سقط (إيلى)، وراح يبذل قصارى جهده لاسترجاعه، وبأى ثمن، حتى أنه عرض مليون دولار ثمناً لهذا، وكان مبلغاً شديد الضخامة فى ذلك الحين، ولكن (سوريا) رفضت العرض بشدة؛ لأن الصدمة كانت أكبر من أن تساوى أى مبلغ مادى فى الوجود؛ فالرجل تعًَّرف كل السياسيين والعسكريين هناك تقريباً، وحصل على معلومات شديدة الدقة وبالغة الخطورة، حتى أن الإسرائيليين أكًَّدوا فيما بعد، أن ما حصلوا عليه كان احد أهم أسباب نجاحهم فى حرب 1967م ... وعلى عكس (رفعت الجمًَّال)، سقط (إيلى كوهين)، وتمت محاكمته على نحو علنى، وأرسلت (إسرائيل) محامياً فرنسياً للدفاع عنه، ولكن النظم القانونية فى (سوريا) آنذاك لم تسمح بهذا، فتم توكيل محام سورى بمبلغ خرافى، إلا أنه، وعلى الرغم من هذا، فقد صدر الحكم بإعدام (إيلى كوهين)، وتم تنفيذ الحكم فى ميدان عام، وتركت جثته معلقة هناك لعدة أيام بعدها .. وحتى هذه اللحظة، وفى كل مفاوضات إسرائيلية سورية، يحتل مطلب إعادة رفات (كامل أمين ثابت) البنود الأولى المقترحة؛ لأن العقيدة اليهودية تؤمن بأنه مالم يدفن اليهودى فى أرض يهودية، فروحه ستظل معًَّذبة، حتى يحدث هذا.... عملية الزرع إذن ليست هينة أو بسيطة، بل هى ثمار جهد طويل، وعمل شاق بلا حدود، منذ اختيار العنصر المناسب للعملية، وحتى معاونته، عبر فريق كامل من الخبراء، على تقمًَّص الشخصية الجديدة، التى سيتم زرعه بها، ونسيان هويته الأصلية، حتى فى نومه وأحلامه... وليس من السهل أن تتم عملية زرع ناجحة، فى أى ظروف، ففى بعض الأحوال يكون زرع العميل أمراً ممكناً، وفى أحوال أخرى يكون مستحيلاً؛ فلأن (إسرائيل) بلد يعتمد على المهاجرين الجدد، من كافة أنحاء العالم، ولأن كل من يهاجر إليها، يبدأ فى تعلم لغتها العبرية منذ البداية، فهذا يجعل عملية زرع العميل فيها أكثر سهولة، على عكس (مصر) مثلاً، التى لا يمكن لأحد أن يتحًَّدث بلكنتها، ما لم يكن قد ولد وعاش فى أحضانها، وهذا ينطبق أيضاً على الفارق بين المجتمع الأمريكى، الذى زرع السوفيت فيه آلاف الجواسيس، عقب الحرب العالمية الثانية؛ لأنه يعتمد على الهجرة، من كل أنحاء العالم، فى حين كان من العسير على الأمريكيين أن يزرعوا عميلاً فى قلب الاتحاد السوفيتى؛ لسماته الانغلاقية، وسهولة كشف الغرباء فيه ... وعندما يتم زرع عميل بنجاح، فى مجتمع ما، فهو يمر بمراحل من المسميات، فى عالم الجاسوسية، منذ بداية الزرع، وحتى نهاية المهمة...