من المؤكد أن حسنى مبارك عندما بدأ ولايته الرئاسية الأولى يوم (14) من شهر أكتوبر 1981 وبعد أسبوع واحد من اغتيال السادات.. من المؤكد أنه لم يكن يتصور وكذلك المصريون أن تكون نهايته على هذا النحو.. مخلوعا بثورة شعبية هى الأولى من نوعها فى تاريخ مصر.. أسقطته من قمة السلطة وقدمته لمحاكمة جنائية، ليكون أول حاكم مصرى يحاكمه شعبه، ولكن لماذا انتهى مبارك هذه النهاية المهنية؟ الإجابة عن السؤال تبدو طويلة بطول سنوات حكمه الثلاثين التى مكّنته من ممارسة السلطة المطلقة فكانت مفسدة مطلقة. لقد استهل مبارك رئاسته بخطابه الذى ألقاه أمام مجلس الشعب بعد أدائه اليمين الدستورية، وحيث حرص على أن يستدعى إلى الأذهان لغة الخطاب الناصرى.. بادئا خطابه بعبارة «أيها الإخوة المواطنون» وهى العبارة التى ارتبطت بالرئيس عبد الناصر وكان يبدأ بها خطاباته إلى الشعب والتى استبدلها السادات بعبارة «أيها الإخوة والأخوات»، بل إنه فى نفس الوقت وفى نفس الخطاب استعار عبارة منتقاة وبالحرف الواحد من المأثورات الناصرية وهى «نصادق من يصادقنا ونسالم من يسالمنا ونعادى من يعادينا». ولم يكن خافيا وقتها أن مبارك استهدف مخاطبة الوجدان المصرى الذى بدا مشتاقا إلى استحضار زمن عبدالناصر ومشروعه الوطنى والقومى، وهو الأمر الذى استشعره بذكاء شديد من كتب له ذلك الخطاب، فكان حريصا على «دغدغة» مشاعر المصريين وبحيث يبدو مبارك وكأنه أقرب إلى عبدالناصر منه إلى السادات.. ساعيا بذلك إلى كسب ود وتعاطف معارضى السادات! فى ذلك الخطاب الأول له كرئيس للجمهورية.. بدا مبارك حريصا على تأكيد زهده فى السلطة وأنه لم يكن ساعيا إليها بل إنها هى التى سعت إليه!، بل إنه زاد على ذلك بتعهده بالاكتفاء بمدة رئاسية واحدة فقط أى ست سنوات، رغم أن الدستور يتيح له الاستمرار لمدد متعددة ودون حد أقصى. *** وهنا تجدر الإشارة إلى مفارقة بالغة الإثارة بل بالغة الدلالة أيضاً، وهى أن الرئيس السادات وقبل عامين من انتهاء ولايته الثانية كان قد أجرى تعديلا على المادة (77) من الدستور الدائم الذى كان قد أصدره عام 1971 وبعد عام واحد من توليه الرئاسة والذى حدد مدد الرئاسة بمدتين اثنتين فقط، وبمقتضى ذلك التعديل بات من حقه الترشح لمدد متعددة دون حد أقصى، أما المفارقة حقا فهى أن السادات لم يستفد شخصيا من التعديل الدستورى إذ تم اغتياله قبل انتهاء ولايته الثانية بعام كامل، بينما كان المستفيد الأول وسيكون الأخير هو حسنى مبارك الذى استمر فى الرئاسة خمس مدد رئاسية! وببقائه فى السلطة ثلاثين سنة فإن مبارك يعد الوحيد من بين كل حكام مصر فى تاريخها الحديث باستثناء محمد على الذى استمر كل هذه السنوات وأيضاً إلى ما بعد سن السبعين وحيث بلغ الثالثة والثمانين. من المفارقات أيضا فى مسيرة مبارك الرئاسية الطويلة أنه بدأ حكمه بالحديث المتكرر عن الطهارة.. طهارة الحكم وطهارة يد الحاكم وبأن «الكفن مالوش جيوب» ثم انتهى متهما بالتربح من السلطة وتضخم الثروة.. ثروته وثروة أبنائه وزوجته، وهى الثروة التى لم يتم التوصل إلى حجمها الحقيقى، وإن كان ما ظهر منها ينبئ بضخامة ما بطن، وحيث بدا أن ما خفى كان أعظم وأكبر! *** لقد كان من الممكن أن يحظى مبارك بخروج آمن وكريم من السلطة لو أنه اكتفى بمدتين رئاستين فقط، وبدلا من تلك النهاية المخزية، كان سيدخل التاريخ باعتباره أول حاكم مصرى يتخلى عن السلطة طواعية، ليكرس مبدأ التداول السلمى، ثم إنه كان سيخرج طاهر اليد.. محافظا على تاريخه العسكرى كقائد للقوات الجوية وأحد قادة حرب أكتوبر والنصر العظيم. غير أنه بسبب تشبثه بالحكم وعجزه عن مقاومة إغراء السلطة خاصة وأنها كانت سلطة مطلقة، فإنه لم يشأ بل لم يستطع التخلى عنها واستمرأ البقاء والاستمرار مدى الحياة وبحسب تعبيره حتى آخر نفس وآخر نبضة فى القلب، وبهذا التماهى مع السلطة والرئاسة تحول مبارك تدريجيا إلى «ديكتاتور» حقيقى على رأس نظام فاسد.. أركانه لصوص فاسدون مفسدون.. زيّن لهم الفساد وزيّنوا له الاستبداد، وغاب عنه وعنهم فى غفلة من غرور السلطة وقوتها أن الحكم والفساد والاستبداد غير دائمين، وأن لكل مستبد نهاية مأساوية مهنية، إلى أن فاجأته ثورة المصريين الذين كان قد فاض بهم الكيل. *** لقد تسلّم مبارك رئاسة مصر وقد تخففت من أعباء وتكلفة الحروب التى خاضتها أربع مرات.. كان آخرها حرب أكتوبر، وحيث تحقق السلام باستعادة سيناء كاملة، ومن ثم فقد كانت أمامه فرصة تاريخية نادرة وسانحة ليقود مصر وشعبها نحو حياة أفضل وأن يؤسس لنهضة حديثة.. كانت مصر تستحقها وتتوق إليها. ورغم أنه بدأ مع بداية رئاسته التوجه نحو إصلاح الأوضاع الاقتصادية حين دعا إلى مؤتمر اقتصادى موسع ضم الخبراء من كافة الاتجاهات السياسية، إلا أنه وبمرور الوقت تراجع عن الإصلاح الحقيقى، بل إن ما أسماه برنامج الإصلاح الاقتصادى تمت ترجمته إلى تخريب للاقتصاد من خلال برنامج الخصخصة الذى أهدر ثروة مصر الصناعية. وفى سياق هذا التوجه استشرت البطالة بمعدلات غير مسبوقة وتدهورت الأوضاع المعيشية وتراجعت بل غابت العدالة الاجتماعية وحيث صار نصف المصريين تحت خط الفقر وحيث جرى تجريف وتدمير الطبقة المتوسطة.. صمام الأمان الاجتماعى وقاطرة النهضة والتقدم، وبالتوازى مع تلك الأوضاع فقد تردت وتدهورت الخدمات الصحية والتعليم والنقل والمواصلات وتراجعت مصر إلى الوراء عشرات السنين! *** وفى المقابل فقد بدأت تتشكّل طبقة جديدة تضم حفنة من رجال الأعمال الانتهازيين الفاسدين.. تسلّقت على أكتاف مبارك ونظامه ونهبت واستحوذت على ثروات البلاد ونجحت فى القفز على السلطة والحكم فيما عُرف بزواج السلطة والثروة، وحيث صارت هذه الطبقة هى الحكومة وهى قيادات حزب النظام وهى البرلمان.. هى التى تشرع القوانين التى تحقق مصالحها على حساب الوطن والمواطنين، وحتى صار المصريون غرباء فى وطنهم.. يعملون فى خدمة مبارك وأركان ورموز نظامه الذين أفقروا الشعب وأمرضوه وأرادوا إذلاله وقهره! وفى السنوات الأخيرة بلغ الفساد ذروته وصار ممنهجا فاستشرى واستفحل واستقوى.. محميا بآلة النظام الأمنية القمعية التى قهرت المصريين وأهدرت كرامتهم وزوّرت إرادتهم حين ظلت تمارس تزوير الانتخابات وعلى النحو الذى بلغ الذروة فى انتخابات مجلس الشعب التى جرت قبل اندلاع ثورة 25 يناير بشهر واحد فكانت القشة التى قصمت ظهر النظام وعجّلت بالثورة وبسقوط مبارك. *** لقد تعددت أسباب الثورة وسقوط مبارك، إلا أن أقواها وأهمها كان مشروع توريث الرئاسة لابنه جمال والذى كاد أن يتحقق، خاصة وأن مبارك وطوال السنوات الثلاث الأخيرة كان قد تحول إلى رئيس رمزى بدون أية صلاحيات حقيقية وحيث كانت زوجته وجمال وزكريا عزمى وأحمد عز وحبيب العادلى هم الذين يحكمون ويديرون مصر فى انتظار ساعة الصفر لصعود جمال! *** وتبقى المفارقة الأكثر إثارة فى قصة صعود مبارك وسقوطه، وهى أنه ظل يرفض بإصرار وعناد شديدين تعيين نائب لرئيس الجمهورية، وهو المطلب الذى بدت ضرورة تنفيذه خاصة بعد محاولة اغتياله فى أديس أبابا عام 1995، وأيضاً بعد سقوطه مغشيا عليه أثناء إلقاء خطاب فى مجلس الشعب، وقد لا يعلم الكثيرون أن السبب الحقيقى فى امتناع مبارك عن تعيين نائب هو أن عرّافة فرنسية التقاها فى باريس فى بداية حكمه تنبأت له بأنه سيفقد منصبه إذا عيّن نائبا له. ولقد تحققت نبوءة العرّافة بالفعل فقد سقط مبارك بعد أسبوعين فقط من تعيين عمر سليمان نائبا له فى محاولة أخيرة لتهدئة الثورة، وهى الخطوة التى تأخرت كثيراً وإن عجّلت بسقوطه حسبما تنبأت العرّاقة وكذب المنجمون ولو صدفوا.