عرض المسرح القومي منذ سنوات مسرحية لكاتب إسباني بعنوان: (دماء على ثوب السهرة)، وكان البطل عزت العلايلي، وكان يقوم بدور ضابط أمن دولة يقوم بتعذيب المعارضين، ونتيجة لعدم قدرته على التعايش مع هذا الوضع أصيب باضطراب نفسي جعله في حالة عجز جنسي فقرر التخلص من مشاكله بترك الخدمة، وحين ذهب لتقديم استقالته استغرب رئيسه الأمر، ونصحه بأن يحاول أن يفهم حقيقة الموقف، واستغرب معاناته من تأنيب الضمير بقوله: ( إن من قام بتعذيبهم لو انقلبت الموازين وتولوا الحكم ، وحلوا محلهم لن يكونوا أقل عنفاً تجاههم وتجاه معارضيهم وسيفعلون بهم نفس الشىء ) . تلك العبارة نستطيع أن نراها على الواقع المصرى فالإخوان والسلفيون الذين تعرضوا للاضطهاد على يد النظام السابق بدأوا فى اتخاذ مواقف ليس ضد من عذبهم من النظام السابق بل ضد كل من فكر فى مخالفتهم الرأى، وهناك المقولة المشهورة فى الفترة السابقة إن الحكومة والحزب احتكروا الوطن والإخوان احتكروا الدين، وان الشعب خارج المنظومة، وهم الآن اعتبروا أنفسهم مسئولين عن الوطن والدين ومن يخالفهم كافر كأن الوطن حزبان حزب الأبرار وحزب الأشرار من كفار قريش. لم يكن للدين الإسلامى مؤسسة تتكلم باسمه، وتقصر الفهم والتدين عليها. فالدين الإسلامى أمامه الناس سواسية ولا تستطيع فئة أن تعطى صكوك الغفران أو دخول الجنة كما فعلت الكنيسة الأوربية فى العصور الوسطى، ولا يمكن قيام مجتمع إخوانى منفصل يتزوج فيه الإخوانى من إخوانية فلن نصبح كالمجتمع اليهودى من يتزوج من خارجه يعتبر أغيارا، ولا يمكن أن نقبل من قيادى إخوانى أن يقول:(إن هزيمة 1967م كانت عقاباً لمصر عما حدث للإخوان). فهل يقال هذا عن هزيمة وانكسار وطن وشعب؟! إن هذا الكلام يلغى الانتماء الوطنى الذى يذوب أمامه أى خلاف سياسى. وهل نصر 1973 م بفضل الإخوان؟ وفى نفس الوقت يبعد عن العقلانية والموضوعية إذا كانوا يسعون لحكم مصر. فالهزيمة لها أسباب سياسية واقتصادية وهو ما يجب أن نبحث عنه، و إلا كانت إسرائيل انتصرت لتقاها وتدينها، وهل من يفكر فى حكم مصر يجعل ذاتيته فوق الوطن . وهذا يقودنا لسؤال عن صلة الدين بالسياسة، وهل جماعة الإخوان كانت تسعى للسلطة والحكم من البداية ؟ وهو ما يجيب عنه مذكرات أحد قادة الإخوان السابقين وهو الشيخ أحمد حسن الباقورى الذى تولى الوزارة فى ظل ثورة 1952م ومن أجل ذلك فصلته الجماعة بعد دخولها فى صراع مع عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة . وهناك العديد من المصادر تؤكد أقوال الباقورى الذى ذكر أنه كان أحد المرشحين لتولى الجماعة بعد مقتل الشيخ حسن البنا . ففى نهاية القرن 19 وبدايات العشرين ظهرت فى مصر اتجاهات فكرية عديدة منها الاتجاه الإسلامى ومثله كل من جمال الدين الأفغانى و الشيخ محمد عبده داعم تيار الإصلاح الدينى الذى يرى الاستفادة من حضارة الغرب ، وإن الإسلام غير متعارض مع التقدم . والأفغانى كان ينادى بفكرة الجامعة الإسلامية، وإن وحدة المسلمين ضرورة وهى لا تعنى تشكيل كيان سياسى للدول الإسلامية على رأسه خليفة بل أن يكون سلطانهم القرآن ووحدتهم الدين. أما تلميذ الشيخ محمد عبده رشيد رضا فإنه لم يتخذ نفس التيار بل كان أكثر تشدداً فهو يرفض الغرب استعماراً وحضارة، ولقد رفض لطفى السيد أستاذ الجيل هذا الفكر، ورفض أى رابطة باستثناء الرابطة الوطنية الخالصة، ولقد تأثر حسن البنا بفكر رشيد رضا، ويقول جمال البنا إنه سمع من شقيقه حسن البنا أن رشيد رضا بتقديمه السلفية الميسرة قصر عليه عمل ثلاثين عاماً، ويضيف أن أخاه ( كان متقبلا تعددا كبيرا من العقلانية والليبرالية، وكان مطلعاً على الثقافة الغربية ) ومعنى ذلك أنه خالف بذلك تشدد رشيد رضا . قام حسن البنا بتأسيس الجماعة عام 1927م وبدأت كجماعة دينية تحض على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ويرى كثير من المحللين أنها وإن كانت قد بدات بالوعظ والإرشاد الدينى ، ولكن فى الحقيقة كانت تنطوى على هدف سياسى منذ البداية ، ولقد أخذ حسن البنا عن رشيد رضا فكرة تأسيس دولة إسلامية كبرى بديلاً عن النظم الليبرالية قادرة على مواجهة الغرب ،وندد بالشيخ على عبد الرازق وكتابه ( الإسلام وأصول الحكم ) ورفض التأويل العقلى وطالب بالغاء القوانين الوضعية، واستخدام التنظيمات العسكرية وموهوها بممارسة الرياضة البدنية وفرق الجوالة. كما حدث فى الاستعراض الذى أقاموه فى الأزهر منذ فترة. وكان الهدف الوصول إلى السلطة لتحقيق هذا، وهناك مقولة شهيرة للشيخ حسن البنا (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). وإذا رجعنا إلى الوراء لوجدنا أن جماعة تتبع نفس النسق فى تنظيمها وتخطيط وصولها للسلطة . ففى البداية وجدت الدعوة استجابة فى الشارع المصرى لعدة أسباب منها ازدياد النفوذ الأجنبى وخاصة الرأسمالية اليهودية المرتبطة بالاستعمار، وجمود الفكر الدينى الرسمى آنذاك متمثلاً فى الأزهر وجنوحه نحو تأييد السلطة، وتغلغل الفكر الليبرالى بين مجتمع الصفوة، ولقد انضم اليهم فلاحون وعمال تحت ضغط سوء الأحوال الاقتصادية، وأقاموا تنظيمات فى المدن والقرى، ولقد عمدوا فى البداية إلى التمويه على الحكومة فى اجتماعاتهم فحين عقدوا مؤتمرا فى بورسعيد رددوا أناشيد صوفية للتمويه وكانوا يتلون المأثورات الدينية ليصرفوا الاهتمام عنهم باعتبارهم هيئة سياسية . أما عن موقف السياسيين المصريين من الإخوان فلقد عمد البعض مثل الآن للتقرب منهم للحصول على أصواتهم وللحصول على تأييدهم كعبد المجيد إبراهيم صالح باشا ، والدكتور أيمن نورالآن يقول: (إنه ليبرالى سلفى )، ولكن الباقورى يقول إن الجميع كان يكره أن ينقلب الإخوان إلى حزب سياسى لأن السياسة لها ميادين تناقض الدعوة الدينية، ولكن كان للشيخ حسن البنا رأى آخر فقد قرر أن يرشح نفسه لمجلس النواب فى دائرة الإسماعيلية، وفى البداية رفضت الحكومة ترشيحه ثم سمحت له ولكنه سقط فى الانتخابات التى أرجعها الباقورى لتدخل الحكومة، وإنهم كرد فعل لجأوا للعنف، وإنهم كانوا فريقين فريق يطلق عليه المحيط العام والأخر النظام الخاص، والمحيط العام محكوم بما يقرره مكتب الإرشاد وأفراده معروفون بأسمائهم واتجاهاتهم، أما النظام الخاص فلم يكن المنسوبون اليه معروفين إلا فى دائرة ضيقة ولأفراد معدودين وربما يجهل بعضهم بعضاً ، وكان منهم محمود عيسوى الذى قتل أحمد ماهر رئيس الوزراء، بدأت الحكومة تتخذ منهم موقف فاتهموا المرشد بأنه يريد إحياء منصب الخلافة، وفى أوائل الأربعينيات وضعت وزارة حسين سرى تشريعاً يحرم على الجمعيات الخيرية العمل السياسي، وكان المقصود بهذا التشريع جمعية الإخوان المسلمين، ولذلك سعت الجماعة للاستعانة بعناصر لها أسماؤها ومسيحيين لتكسب الشرعية أمام الدولة ( كما يحدث الآن ) فاستعانت ب عبد الرحمن باشا عزام الذى أصبح أول أمين للجامعة العربية فيما بعد ، ووهيب دوس لتوافر عناصر الوحدة الوطنية ثم حسن عشماوى . ويرى الباقورى أن الجماعة كانت تحتاج لأقطاب ثلاثة هى : الأول : تغيير العرف الذى كانت الشعوب المطلوبة تحتكم به. الثاني: الطريق الدستورى بمعنى أن يجتمع الإخوان فى دائرة انتخابية ثم يرشحون من بينهم واحدا له عصبية تمكنه من الظفر بمقعد البرلمان، فاذا لم يجدوا فى صفوفهم عليهم أن يؤيدوا واحدا ليكون أهلاً لتأييدهم حتى يظفر بهذا المقعد ويكون مؤيداً لهم ، فاذا اجتمعت لهم عصبية قريبة فإنهم بعد ذلك قادرون على أن يتقدموا بمشروعات قانونية تهدف لبسط نفوذهم، أما ثالث الأقطاب الثلاثة فليس فى حاجة لنشر وتدوين إن هذا لا يعنى إلا الاستيلاء على الحكم بالقوة والقهر والثورة . فالهدف من البداية الوصول إلى الحكم وانهم قسموا أنفسهم لثلاث شعب.. الأولى خاصة بالجيش وقوامها الضباط والجنود ولها رئيس مسئول، والشعبة الثانية الشرطة ولها رئيس مسئول ، الشعبة الثالثة الدعاة القادرون على الدرس والبحث ورؤساء الشعب الثلاث مسئولون أمام المرشد العام ، وقام الجهاز السرى بتدريب الراغبين فى الجهاد فى جبل المقطم، ويقول الباقورى : إن عبد الناصر كان أحدهم وقد اتصل بهم قبل عام 52 وعرفه بهم عبد المنعم عبد الرؤوف أحد الضباط الذى كان يعرف عبد الرحمن سندى والذى رفض جمال العمل تحت رئاسته لأنه ليس على مستوى فكرى أو ثقافى يؤهله للمسئولية، واتخذ سندى قرار قتل الخازندار دون الرجوع لصالح عشماوى، كذلك تمت تفجيرات عديدة فى المحلات اليهودية، ووقعت سيارة جيب تخص الجهاز السرى فى أيدى البوليس بها أوراق وأسماء بعض أعضاء الجماعة فقرر محمود فهمى النقراشى وقف نشاط الجماعة وحلها وتصفية موجودات الإخوان المسلمين فاعتبروه معتدياً على الإسلام وقتله عبد المجيد حسن ، وكان طالباً بمدرسة الطب البيطرى، ولقد نفى الباقورى أن يكون هذا بإيعاز من حسن البنا. ولقد تمنى حسن البنا فى نهاية حياته أن تعود به الأيام ويعظ مائتين من الشباب ويتجنب تماماً طريق السياسة . ثم قتل حسن البنا عام 1949م واتهم البعض الملك فاروق، وطالب البعض بالثأر منه، واستعانوا برأى مفتى فلسطين آنذاك الشيخ أمين الحسينى ومحيى الدين الخطيب فرفضا فكرة الاغتيال. وفى عام 1949م خفف حسين سرى الضغط عليهم واتاح لهم أن يجتمعوا ويعلنوا دعوتهم ، ومع قيام ثورة يوليو أيدوها ولكن ساءت العلاقة لمحاولتهم فرض نوع من الوصاية ، وبدأت الفجوة بينهم وبين جمال عبد الناصر وزادت بعد حادث المنشية حيث تم محاكمة العديد منهم ووقف نشاطهم. إذن فالجماعة منذ البداية تسعى للحكم واتخاذ موقف سياسى. ففى الخطوات الثلاث للوصول للسلطة من السيطرة البرلمانية ثم إظهار وادعاء الوحدة الوطنية إلى السيطرة على الدولة. إن الحرية تفتح الباب أمام الجميع للوصول للسلطة فهل يطبقون نظام المجتمع الإخوانى المغلق بمن فيه ، وتكفير الآخر بدعوى أن من يخالفهم يخالف الإسلام أم سيتبعون النموذج التركى الذى تتألف فيه حكومة لها خلفية دينية مع جيش ومجتمع جزء كبير منه علمانى فيه رئيس وزراء رشح (50) امرأة غير محجبة للبرلمان رغم أن زوجته محجبة، واحترم الرأى الآخر ولم يكفر من خالفه فاستحق إعادة الانتخاب، والأيام وحدها ستحدد ذلك.