رغم أنها ولدت من غير أب شرعى أو عقل مدبر، فإن ثورة 25 يناير نجحت فى خلق كيانات مستقلة ورموز فاعلة عجلت بمحاكمة رموز النظام السابق المحبوسين الآن فى سجن طره انتظارا للمصير المجهول، والنهاية المحتومة التى لا يعلمها إلا الله. كما نجح أبناء الثورة فى تشكيل حكومة جديدة تعمل سواء بسواء مع حكومة د. شرف، فيما يشبه الرقيب أو مجلس قيادة الثورة أيام عبد الناصر. وبدأت أولى جلساتها من ميدان التحرير، عندما أعلنت من خلال محاكمة شعبية تنفيذ حكم الإعدام شنقاً على الرئيس السابق من خلال مجسم رمزى قذفوه بالحجارة فى جمعة الغضب، وضربوه بالأحذية فى جمعة الرحيل، ثم أشعلوا فيه النار فى جمعة المحاكمة. ومن خلال استفتاء عام سجلت «أكتوبر» الأحداث لحظة بلحظة، ورصدت تشكيل الحكومة الجديدة واستطلعت آراء شباب الثورة والوزراء الجدد فى دعم الاقتصاد، وتحقيق الديمقراطية، وإقامة حياة برلمانية، والاستفادة من الطيور المهاجرة، وملاحقة رموز الفساد فى الداخل والخارج. تفاصيل كثيرة بين سطور التحقيق التالى: فى البداية اختار الثوار د. حازم الببلاوى الاقتصادى المعروف، ومستشار صندوق النقد العربى فى أبو ظبى ليكون رئيساً للحكومة خلفاً للدكتور عصام شرف ليس لكونه من الشيوخ وخبراء الاقتصاد فحسب ولكن باعتباره متخصصاً فى إدارة شئون الأزمات، وصاحب دراسات اقتصادية مهمة استعانت بها دول النمور الآسيوية فى دفع عجلة اقتصادها، كما هو حادث الآن فى هونج كونج وسنغافورة وماليزيا وتايلاند. وحازم الببلاوى شخصية معروفة فبعد تخرجه فى كلية الحقوق حصل على حزمة من الدراسات العليا فى الاقتصاد السياسى، والقانون العام والعلوم الاقتصادية وتوجها بدكتوراة فى ذات التخصص من جامعة باريس عام 1982، بالإضافة لتوليه العديد من المناصب منها وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، وأمين اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لدول غرب آسيا، ورئيس مجلس إدارة البنك المصرى لتنمية الصادرات. أما المهندس حسب الله الكفراوى أحد الرموز التى ساندت الثورة من أول يوم فقد اختاره الثوار ليكون نائباً لرئيس الوزراء للحوار بدلاً من د. يحيى الجمل ود. عبد العزيز حجازى الذى لم يجلس ولو لمرة واحدة مع ائتلاف شباب الثورة. ومواقف حسب الله الكفراوى معروفة، فهو أول من حذر مبارك من العصابة التى تحيط به من مجموعة رجال الأعمال لدرجة أنه كتب مذكرة موقعة بخط يده يطالب فيها النظام بسرعة التخلص من رموز الفساد إلاّ أن زكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية رد عليه بمذكرة مماثلة يطالبه بعدم التدخل فيما لا يعنيه، والكف عن التصريحات المزعجة والنقد المستمر للحكومة، وعندما رفض الكفراوى أن يكون شيطاناً أخرس صدر فرمان جمهورى بتحديد إقامته فقال الكفراوى على الملأ: الحمد لله الذى سكت صوتى بقرار جمهورى، وليس بقرار من ضميرى واستمر الكفراوى فى نقده مؤكداً أن النظام الهش لايستطيع تحمل النقد، وأن سياسة الكذب، والإنجازات الوهمية لا تنطلى على من أفنى عمره فى خدمة هذا البلد ولاينسى التاريخ - كما تؤكد الوقائع - أن الكفراوى أشرف على تنفيذ مشروعات الجيل الأول من المدن الجديدة خلال فترة توليه الوزارة التى زادت على 16 عاماً حتى أطلقوا عليه «أبو المدن» كما أنشأ ميناءى دمياط، والدخلية، بالإضافة إلى بنك الإسكان والتعمير لتمويل وحدات إسكان الشباب. ولرئاسة مجلس الشعب فقد اختار الثوار - كما جاء على لسان الكثير منهم - طلعت السادات ليكون خلفاً للدكتور فتحى سرور المحبوس حالياً على ذمة التحقيقات فى التحريض على موقعة الجمل. وحجتهم كما يقول محمد عطية ناشط سياسى أن طلعت السادات رفع راية العصيان فى وجه النظام السابق بإعلانه صراحة أن قاتل عمه مازال حراً طليقاً، وأن حادث المنصة يفوق قدرات خالد الاسلامبولى وعبود الزمر، كما أن طلعت السادات كان على خلاف دائم مع وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى بعد براءة محمد على عبد اللطيف الذى ادعت الداخلية أنه ارتكب مذبحة بنى مزار. ولم يكن د. أسامة الغزالى حرب رئيس حزب الجبهة الديموقراطى بعيداً عن فكر الثوار فقد نزل الرجل رغم صحته المتواضعة إلى الشارع يوم 25 يناير أول أيام الثورة، وقد طاف الغزالى مع المتظاهرين شوارع رمسيس وميدان التحرير و26 يوليو وكورنيش النيل، وماسبيرو ولذلك رشحه الكثير من الثوار لرئاسة مجلس الشورى خلفاً لصفوت الشريف نظراً لكونه لا يعرف المجاملات أو المؤامرات، كما كان يفعل غيره. وقد ارتفعت أسهم د. الغزالى بعد أن قدم استقالته من أمانة السياسات وإعلانه صراحة أن جمال مبارك لن يصل إلى السلطة فى ظل انتخابات حرة ونزيهة. كما اعترض الغزالى على كل سياسات الحزب التى اعتمد فيها على الشو الإعلامى وتسخير كل إمكانيات الدولة لدعم رجال الأعمال، فى وقت كان يتسابق فيه أركان النظام السابق على مص دماء الشعب المصرى. أما المستشار محمود الخضيرى نائب رئيس محكمة النقض السابق الذى قدم استقالته من سلك القضاء بعد 46 سنة خدمة فيعد من أبرز الوجوه التى لفتت أنظار ثوار فاختاروه وزيراً للعدل لإصراره على محاكمة الرئيس السابق مبارك وحل الحزب الوطنى وسرعة محاكمة جمال وعلاء وضرورة خضوع سوزان مبارك لجهاز الكسب غير المشروع وهو المطلب الذى من المتوقع أن يتحقق قريباً. وزادت أسهم المستشار الخضيرى فى ميدان التحرير بعد إعلانه الذهاب إلى شرم الشيخ مع ممدوح حمزة وجورج إسحاق وصفوت حجازى لمحاكمة الرئيس السابق وتشكيل محكمة شعبية فى ميدان التحرير وتصنيع مجسم رمزى لإعدام الرئيس. وقد طالبه الثوار أن يكون مستعداً لمنصب وزير العدل أو منصب النائب العام بعد انتخابات الرئاسة بعد إعلانه صراحة ضرورة تحرر القاضى من أى ضغوط سياسية أو مادية أو معنوية وألا يكون خاضعاً إلا لضميره والقانون. فيما طالب الثوار أن يتولى اللواء فاروق المقرحى مساعد وزير الداخلية الأسبق للأموال العامة مسئولية وزارة الداخلية أو اختيار أسماء مشهود لها بالكفاءة نظراً لتاريخه الطويل فى الوزارة ومعرفته بأسرار الباشوات واللواءات، وخبرته فى كشف الفساد. ويعد اللواء المقرحى من أوائل المساعدين الذين حاربوا حيتان الفساد فى الداخلية، حيث سار على درب أستاذه اللواء أحمد رشدى وزير الداخلية الأسبق والذى كان وما يزال ملء السمع والبصر فى طهارة ونظافة اليد، كما كان اللواء المقرحى أول من كشف المستور فى مباحث الأموال العامة وهو فى الخدمة، ولهذا أصدر وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى قراراً بمنعه من الكلام، ومع ذلك قال المقرحى صراحة إن اللواء زكى بدر اعتقل والد أحمد عز فى أواخر الثمانينات لأنه كان تاجر عملة من النوع الثقيل. وأضاف قائلاً: إن مختار خطاب باع قطاع الأعمال العام بثمن بخس بتشجيع من د. عاطف عبيد رئيس الوزراء الأسبق الذى سهل عملية استيلاء عز على شركة حديد الدخيلة ليسيطر على سوق الحديد بالكامل وكشف المقرحى عن أن عبد الله طايل رئيس اللجنة الاقتصادية بمجلس الشعب عرقل صرف القرض الكويتى الذى كان مخصصاً لتطوير شركة حديد الدخيلة لإجبار الحكومة على بيعها مما أدى إلى إصابة إبراهيم سالم محمدين رئيس مجلس إدارة الشركة آنذاك بالسكتة القلبية حزناً على الشركة، وبيع أصول القطاع العام. أما ممدوح حمزة الذى رشحه الكثير ليكون وزيراً للإسكان - رغم رفضه المتكرر لهذا المنصب وغيره من المناصب - فهو أكثر من تعرض للظلم فى عهد النظام السابق حيث اتهموه بالتخطيط لاغتيال صفوت الشريف وفتحى سرور ومحمد إبراهيم سليمان وزكريا عزمى لدرجة أن الشرطة البريطانية «اسكوتلانديارد» أودعته السجن عامين على ذمة القضية إلى أن تمت براءته. ولأنه كان يسبح ضد التيار فقد رفض رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف كل المشروعات التى كان يتقدم بها نظراً للتقارير المضروبة التى كان يقدمها ضده د. محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان الأسبق. ممدوح والهانم وقد بدأ الصدام بين د. ممدوح حمزة والنظام عندما لاحظت سوزان مبارك سيدة مصر الأولى أن الاستشارى الكبير لم يضع صورتها بجوار الرائدتين سميرة موسى وهدى شعراوى عند افتتاحه إحدى المدارس التى أنشأها، فوضعته فى القائمة السوداء وأوعزت إلى وزير الإسكان أحمد المغربى رفض كل المشروعات التى يتقدم بها حمزة. ومع اهتمامه بالعلم والهندسة والتخطيط فقد اشتغل بالسياسة حيث طلب من الرئيس السابق مبارك فى رسالة حملها د. مفيد شهاب، ضرورة إبعاد سوزان مبارك ونجله عن الحياة السياسية، لأنهما أول من يقضى عليه، وقد تحققت نبوءة د. ممدوح حمزة وأصبح الرئيس السابق مبارك قاب قوسين أو أدنى من حبل المشنقة بسبب بطانة السوء التى كانت تحيط به. ومن المعلوم أن د.ممدوح حمزة كان من أبرز الشخصيات المؤيدة لثورة 25 يناير عندما حرص فى الأيام الأولى على تزويد المعتصمين بالأغذية والبطاطين مع تقديم 1000 يافطة مكتوب عليها «ارحل» كما اعترف الرجل بصراحته المعهودة أن كثيراً من مطالب الثوار كان يتم صياغتها وطبخها فى مكتبه والذى يعمل به بعض شباب 6 إبريل. أما المهندس يحيى حسين عبد الهادى هو أول مسئول حكومى يعترض على بيع شركة حكومية، وكان ذلك عندما تقدم ببلاغ للنائب العام السابق ماهر عبد الواحد يكشف فيه مدى التلاعب والتواطؤ الذى شاب عملية بيع عمر أفندى، ورغم حفظ البلاغ فقد قرر حسين عبد الهادى ملاحقة الفساد أيا كان موقعه وجاهر بكلمة الحق فى وقت كان يعز على الكثير قولها. وقد دفع عبد الهادى الثمن غالياً فبعد أن كان رئيساً لمعهد إعداد القادة، ورئيس مجلس إدارة شركة بنزيون وعدس وريفولى وعضواً فى مجالس إدارات الكثير من الشركات تم عزله، وأصبح مستشاراً لمعهد إعداد القادة، وأصبح مرءوساً بعد أن كان رئيساً، وقد ظل يحيى حسين سيفاً مسلطاً على رقاب الفاسدين إلى أن قامت الثورة، وتبين أنه يعيش فى قلوب الملايين من أبناء الشعب المصرى والذين اختاروه ليكون وزيراً للاستثمار عن جدارة بدلاً من وزيرها السابق د. محمود محيى الدين الذى أنقذه القدر من الانضمام لحكومة طره بتعيينه مديرا عاما للبنك الدولى قبل الثورة بأشهر قليلة. شلة جمال وفى استفتاء أكتوبر بميدان التحرير طالبت عشرات الأصوات بأن تتولى د. هالة مصطفى وزارة الأسرة والسكان خلفاً للسفيرة مشيرة خطاب، أو أن ترأس المجلس القومى للمرأة بشرط ألا يكون تابعاً لحرم رئيس الجمهورية، كما كان متبعاً فى المجلس السابق. وبدأت الحرب على الدكتورة هالة عندما قالت فى مجلة الديمقراطية «إن الحزب الواحد لايمكن أن يعرف الديمقراطية، وإذا ادعى غير ذلك فإنه يروج لديمقراطية منقوصة أو شكلية. بعد هذه المقالة وضعتها شلة جمال مبارك فى الحزب الوطنى وأمانة السياسات فى القائمة السوداء، وبدأوا التضييق عليها، والحجر على رأيها فى مؤتمرات الحزب ومنعها من السفر إلى أمريكا إلا بإذن مسبق خشية من تأثيرها على صانع القرار الأمريكى فى مسألة المعونات. أما الناشط السياسى جورج إسحاق المنسق العام السابق لحركة كفاية، فقد اكتشفت أكتوبر فى الاستفتاء الذى أجرته مع ثوار الميدان - أنه مرشح وبقوة لتولى منصب جديد فصَّله الثوار على مقاسه وهو منصب وزير شئون المصريين فى الخارج وهى الوزارة التى يأمل الكثير من المهاجرين تشكيلها فى الحكومة الجديدة لتكون حلقة الوصل بينهم وبين الوطن الأم ودعم المشاركة السياسة فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة. وقد عشق المثقفون المصريون جورج إسحاق لأنه كان ولا يزال يدعو إلى ترسيخ مبدأ المواطنة ودمج التيارات الفكرية المتناقضة تحت لواء حركة كفاية سابقاً. عسل الثورة وإذا كان جورج إسحاق لم يستفد حتى الآن من عسل الثوار أو عسلية الثورة فمن حقه بعد هذا الكفاح الدخول فى جنة الثورة ومد حبل التواصل بين الطيور المهاجرة والمصريين فى الداخل. أما عمرو خالد فقد بلغت شهرته الآفاق وسافر إلى أغلب الدول العربية والأوروبية واكتسب رضا وقبول كثير من الشخصيات الدينية والسياسية، وتمسك به مريدوه فى السعودية والأردن والكويت وأوروبا وأمريكا والتف حوله الشباب فيما يشبه الاتفاق، وقد رشحه الثوار لتولى منصب وزير الشباب الذى تقلده فى السابق د. على الدين هلال أمين الإعلام بالحزب الوطنى. ركز خالد فى دعوته على الشباب فكان برنامج «صناع الحياة» بمثابة حلقة الوصل بينه وبينهم فطالبهم من خلاله بالمشاركة فى الحياة السياسية والاجتماعية ودفع عجلة التنمية وزيادة الانتاج. ورغم إعلانه صراحة أنه لا يحب السياسة فقد رفض الشيخ محمد حسان كافة أشكال العنف والعصيان المدنى والاحتجاجات الفئوية وطالب الشباب بالعمل من أجل مصر، ولشعبيته الجارفة استعانت به حكومة د. شرف فى فض اعتصام كنيسة صول بأطفيح واحتجاجات قنا. وللقبول الذى يتمتع به فقد رشحه المصريون وبالتحديد شباب الثوار لتولى منصب وزير الأوقاف، ورفض الشيخ حسان صراحة اضطهاد الأقباط أو التقليل من شأنهم مؤكداً أن أى داعية يقول غير هذا لا يفهم تعاليم الدين الحنيف. وأخيراً فقد اختار الثوار من خلال استفتاء أكتوبر علاء عبد المنعم النائب السابق لدائرة الدرب الأحمر ليكون رئيساً للجهاز المركزى للمحاسبات خلفاً للدكتور جودت الملط الذى تعرض لانتقادات حادة فى الفترة الأخيرة.