استوقفنى طويلا مقال الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين المنشور فى الأهرام يوم الاثنين الماضى تحت عنوان (غاغة المؤسسات الصحفية) باعتباره شهادة أحد شيوخ الصحافة المصرية والعربية والذى لا يختلف اثنان فى بلاط صاحبة الجلالة – بصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف معه فى آرائه السياسية – على مهنيته رفيعة المستوى وحرفيته الصحفية العالية. متحدثا عما تتعرض له غالبية المؤسسات الصحفية القومية مما وصفها ب «صور عديدة من الإرهاب والابتزاز وغياب احترام القانون والنظام العام ومحاولات فرض الأمر الواقع باسم الثورة».. يقول الأستاذ مكرم:«المؤسف أن هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على الآخرين بالاجتراء والصوت العالى والتطاول لا يتوافر لتاريخهم المهنى ما يشير إلى الحد الأدنى المقبول للكفاءة والاستحقاق، ولا تقول فهارس أعمالهم أنهم قدموا فى تاريخهم المهنى أى عمل له قيمة حقيقية». ثم مستدركا يقول «نعم يوجد عدد من الكفاءات عطلت الاستفادة منها صراعات شخصية كان يمكن استيعابها لولا عنت الإدارة فى بعض مواقع العمل الصحفى، لكن هؤلاء هم القلة المظلومة وسط سوق للمزايدات والمتاجرة يزدحم بالعملات الرديئة». *** لقد أصاب الأستاذ مكرم كبد الحقيقة بقوله «يزيد من صعوبة الموقف أن الذين يتولون أمر الإعلام وخاصة الصحافة الآن لا يعرفون كُنة المشاكل أو جوهرها، ولا يسألون من يعرفون النصيحة، ولا يثبتون على قول أو رأى، ولا يرجحون الأخذ بالمعايير المهنية الصحيحة التى تكشف الطالح من الصالح، لأنه فى مهنة الصحافة فإن الجميع بمثابة كتب منشورة وصفحات معلنة وتاريخ معروف يصعب إهداره». ولذا يقول الأستاذ مكرم «شاعت فى المؤسسات الصحفية القومية صورة غريبة من البلبلة والتحرش بلغت حد التشابك بالأيدى والتنابز بالألقاب، رغم أنه فى كل دار صحفية قومية العديد من المهنيين المحترمين الذين يصعب تخطى أسماءهم ويتمتعون بالجدارة المهنية وحسن السمعة». ومن ثم فإنى أحسب أن المهنيين الحقيقيين يتفقون مع مطلب نقيب الصحفيين الذى أختتم به مقاله المهم.. مخاطبا من بيدهم القرار:«من فضلكم تريثوا بعض الوقت فى قضية تغييرات القيادات الصحفية إلى أن يهدأ المناخ بعض الشىء وتعود العقلانية والرشد». ما لم يقله الأستاذ مكرم أن ما وصفها بصور الاجتراء والتطاول والصوت العالى والإرهاب والابتزاز فى المشهد الصحفى حاليا من جانب من وصفهم بأنه ليس فى تاريخهم المهنى أى عمل له قيمة حقيقية.. ليست فروسية و دليل شجاعة أو غيرة مهنية، بل إنها ليست من أهداف ومطالب الثورة النبيلة، إذ أن هذه القلة من المتطاولين كانوا جزءا من منظومة العمل الصحفى تحت القيادات الصحفية الحالية، بل إنها وللمفارقة الفاضحة لم تكن لديهم الشجاعة والجرأة الحقيقية المحترمة التى كانت لدى غيرهم من المهنيين الحقيقيين لمجرد الاعتراض أو الحديث! ورغم اختلافى شخصيا مع الأستاذ مكرم فى كثير من آرائه ومواقفه السياسية خاصة أثناء الثورة، إلا أن ما تعرض له من إساءة من جانب قلة من الصحفيين وإلى درجة منعه من دخول النقابة أمر غير لائق وغير مقبول تجاه قامة صحفية كبيرة بوزن الأستاذ مكرم وبتاريخه النقابى، خاصة فى نقابة رأى تدعو إلى حرية التعبير والديمقراطية واحترام التعددية وحق الاختلاف فى الرأى. إن تلك القلة التى تحدث ما وصفها الأستاذ مكرم بالغاغة فى الجماعة الصحفية الذين ويشعلون الفتنة ويثيرون البلبلة والاضطراب فى المؤسسات الصحفية القومية لا يجوز استمرارهم فى الانتماء إلى المهنة والنقابة، وإنه يتعين على مجلسها برئاسة النقيب (خاصة بعد الحكم بقانونية بقاء المجلس الحالى حتى نهاية مدته) اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها فى قانون النقابة وميثاق الشرف الصحفى تجاه أصحاب تلك «الغاغة». قد يكون مفهوما أن حق الاختلاف والاعتراض على أية ممارسات خاطئة أو المطالبة بإصلاحات مكفول للجميع وفقا لآليات وطرق قانونية مشروعة دون خروج على الآداب العامة ودون خروج على منظومة الأعراف والتقاليد الصحفية المستقرة، ولكنه يبقى مستعصيا على الفهم حدوث تلك السلوكيات غير المهنية والمستجدة فى بلاط صاحبة الجلالة، والتى سوف تكون لها تداعياتها الخطيرة على علاقات العمل فى الصحف القومية ولفترة طويلة مقبلة ريثما يبدد الزمن آثارها السلبية بالغة السوء والضرر، وريثما تندمل جروح كثيرة غائرة فى قلب الأسرة الصحفية بكل مؤسسة.. أحدثتها تلك «الغاغة» وذلك السلوك الغوغائى. *** واقع الأمر أن (فى الفم ماء وكيف يتكلم من فى فيه ماء؟). نعم كيف يحق للمرء انتقاد الفوضى والغوغائية التى تتعرض لها مصر حاليا فى كل المواقع والمؤسسات والهيئات فى صورة احتجاجات وإضرابات فئوية ومطالب خاصة وطائفية ومطالبات بإقالة ورحيل كل مسئول فى كل موقع وباسم الثورة، بينما يحدث ذلك كله فى المؤسسات الصحفية القومية.. منارات الرأى والتنوير، غير أنه يرفع عنا الحرج أن نقيب الصحفيين وشيخ الصحافة بادر بممارسة النقد الذاتى بكل موضوعية وجسارة لكل ما يجرى داخل الجماعة الصحفية. *** إن حالة عدم الاستقرار التى تخيم على مصر رغم نجاح الثورة وانحياز الجيش للإرادة الشعبية وتعهده بنقل السلطة إلى شرعية يرتضيها الشعب فى نهاية فترة انتقالية يستعجل إنهاءها وعلى هذا النحو من الفوضى التى تضرب أمن الوطن والمواطنين فى الصميم، ليست سبيلاً باى مقياس أو معيار لتحقيق أهداف الثورة واستعادة مؤسسات الدولة الرئاسية والبرلمانية وتحقيق الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية. ليس منطقيا وليس فى مقدور المجلس العسكرى وحكومة د. عصام شرف الذى يحظى بشعبية جارفة وقبول عام هو ووزراؤه الجدد.. الضغط على زر لحل مشكلات ثلاثين سنة أو تلبية كل المطالب بين يوم وليلة. ومع ذلك فإنه يحسب للمجلس العسكرى أنه لبى كافة المطالب الشعبية الرئيسية بداية من حل البرلمان وإقالة حكومة شفيق باعتبارها من بقايا النظام السابق، ثم حل جهاز أمن الدولة وتشكيل جهاز للأمن الوطنى بديلا عنه وبفلسفة جديدة ترتكز على حماية أمن الوطن ودون أى امتهان لكرامة المواطنين أو تدخل فى اختيار القيادات بداية من رئيس الحى والمحافظ وعميد الكلية ورئيس الجامعة حتى الوزراء وشيخ الأزهر ومفتى الديار. حسبنا أيضاً أنه لم يعد أحد فى مصر فوق القانون أو بعيداًً عن المحاسبة وأن النائب العام يوالى إحالة كل وزراء وأركان الفساد فى النظام السابق إلى المحاكمات بعد التحفظ على أموالهم وحبسهم احتياطيا. وفى نفس الوقت فإن ثمة تساؤلات مشروعة حول عدم إحالة الرموز الكبيرة فى النظام السابق إلى التحقيق أو المحاكمة إن لم يكن بتهمة التربح والفساد المالى فعلى الأقل بتهمة الإفساد السياسى. وإذا كان من غير الممكن إنكار الجهد الكبير للجيش فى إدارة البلاد وتأمين الحدود وفى نفس الوقت حماية الأمن الداخلى مع استمرار الغيبة النسبية للشرطة، إلا أن الهاجس الأمنى مازال يثير قلق جموع المصريين بسبب عدم اكتمال عودة الشرطة بكامل طاقتها. قد يكون هناك بعض التباطؤ فى كثير من الملفات الساخنة التى تتطلب حسما سريعا، ولكن ما يواجهه المجلس العسكرى والحكومة الانتقالية من أزمات متتالية واحتجاجات وإضرابات فئوية متصاعدة فى أعقاب ثورة رفعت سقف التوقعات يمكن أن يكون مبررا مقبولا لذلك التباطؤ. *** ومع التسليم بنظرية المؤامرة وأن فلول النظام السابق وقيادات حزبه وفلول أمن الدولة وحبيب العادلى وراء كل مظاهر الفوضى والاضطرابات وتأجيج واختلاق المشكلات الطائفية، إلا أنه تبقى وفى كل الأحوال مسئولية الشعب المصرى بكل فئاته وتوجهاته فى الحفاظ على مكتسبات الثورة وتهيئة الأجواء لنقل السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة.. رئاسية وبرلمانية. *** إن استمرار حالة عدم الاستقرار سوف يجهض الثورة، وإن استمرار الأزمات سوف يجهد المجلس العسكرى، وإن استمرار الإضرابات والاحتجاجات الفئوية سوف يربك الحكومة. إن الثورة نجحت نجاحا أذهل العالم فى إسقاط النظام السابق، ولكن الفوضى السائدة الآن تهدد بإسقاط الدولة، وذلك خط أحمر ليس مسموحا لفئة أو طائفة أو جماعة الاقتراب منه، وإلا فإن على المجلس العسكرى الضامن للثورة أن يتخذ من الإجراءات والتدابير ما يضمن تأمين الوطن وحماية المواطنين واستقرار وبقاء الدولة.