يجلس صالح فى احد اركان المطعم منكمشا ينتظر حبه الوحيد يلملم شتاته المبعثر يفجر فى حواره الأخير مع أميرة قلبه المتوجة كل ما تبقى من إنسانيته وأحلامه وطموحاته يغتال فى لحظة «انكسار» تملكته كل ما مر عليه من ضحكات ونسائم صيفية واسترخاءات شتوية ويلفظ أنفاسه النبيلة معلنا فى وهج فحولته المهزومة بأنه ليس فارسها المنتظر وعندما يأتيه قرار الانحراف يتوغل بكل قوته ليفجر الصاله بالضحك وبالبكاء من وعلى وضعنا العربى المتردى المستمر فى الانحدار فى زمن لا يعرف قيمة فرسانه النبلاء. هذه الحاله بداية العرض المسرحى الممتع والرائع «المطعم» المقدم حاليا بقاعة يوسف إدريس من إنتاج مسرح الشباب التابع للبيت الفنى للمسرح بطولة أكرم مصطفى، رشدى الشامى، مجدى عبيد، لؤى الصيرفى، وسام صبحى، سندريلا، شمس الشرقاوى، محمد مليك من إعداد وإخراج أكرم مصطفى والعمل عبارة عن فكرة مستوحاة من مطعم القردة الحية لغونكور ديلمان. تابعت لبطل العرض ومخرجه أكرم مصطفى العديد من الأعمال الفنية على خشبات مسرحنا المصرى آخرها مسرحية حكاية واحد صالح على نفس الخشبة من سنوات. وفى كل مرة ترتقى معه حساسية الممثل والمخرج معا وعلى الرغم من قلة أعماله إلا أن جميعها قادرة على أن تسكنك كمتلقى خاصة وأنه دائم البحث عن الأعمال التى تطرح هموم جيله الشاب وترصد وبواقعية أدق تفاصيل معاناته فى شكل وقالب فنى جديد وفى هذه التجربة تعيش أجواء المطعم منذ وقوفك أمام مدير صالة العرض وحتى جلوسك على الترابيز المخصص لك مما يحيلك منذ اللحظة الاولى أنك أحد أفراد الحكاية وأنك تجسد مع أبطال العرض شخصيتك الفارس الحقيقيه لأن الرؤية الإخراجية من اللحظات الأولى للعرض كانت شديدة الذكاء والحرفية والمصداقية فى اختيار المنطقة الإنسانية الناعمة ومداعبة الأحاسيس الإنسانية البريئة من خلال الكشف عن فلاشات بين صالح وأمانى فتاة أحلامه والتى تعدوا بمثابة انتقالات زمنية تجوب بين محطات فارسا يوتوبيا يعيش فى مدينته الفاضلة بحثا عن سبل تربط بينه وبين أميرته ورغم أن استكمال المشهد يعلن إنهاء علاقة حب شديدة الصدق إلا أن انتهاء هذه العلاقه هى الجسر الذى يعبر به مخرج العمل ومعه كل من فى الصاله إلى أرض الخراب حيث نتكشف سويا ضياع هذا الفارس فى زمن لايعرف قيمة فرسانه الأوفياء وأود هنا أن أثنى على قدرة الفنانة الشابة سندريلا التى جسدت شخصية «أمانى» وتملك أكرم مصطفى فى شخصية صالح من أدواتهما التمثيلية وصدقهما وقدرتهما على الاستحواذ على جمهور الصالة واستنطاقه بالضحكات رغم قتامة الحالة فى المشهد الأول من العرض الذى يصل إلى ذروته عندما يعلن البطل لأميرته قائلا: «عفوا أميرتى لست فارسا كما كنت أدعى» وينتهى بانفصالهما النهائى. وتتكثف الأحداث والتفاصيل لنجد البطل تائها بين شباك «ريرى» فتاة الملهى أو المطعم والتى جسدت شخصيتها الفنانة الشابة شمس الشرقاوى بجدارة حيث تصبح أول الشخصيات التى تعبر به بين مدينته الفاضلة إلى أرض الخراب ونعيش معهما مشاهد قمه فى الكوميديا السوداء وربما كانت اللهجة والمفردات المستخدمة على لسان «ريرى» هى السبب فى عقد هذه المقارنة بداخلى بين المدينه الفاضلة ل «أفلاطون» وأرض الضياع أو الخراب ل « تاس اليوت» حيث كانت جمل صالح اللغوية تستدعى مفدرات عربيه فصحى أثناء تحوله على إثر استسلامه للإحباط واليأس والإنكسار وكان أداؤه بين العامى والفصحى. فى العمل شخوص وضعها المخرج إما لكسر الحائط الرابع بين الجمهور والممثلين أو لوضع الجمهور داخل الحائط الرابع لتهئية الأجواء لحالة حميمية وتوحد ومشاركة فى الهم المطروح عبر قضية العرض وتبدأ هذه الشخصيات من وقوف الممثلين على جانبى القاعة فى استقبال الجمهور والإنارة لهم للجلوس على الكراسى وحتى وضع «نانو» متر الصالة الذى يجسد شخصيته الفنان الشاب أحمد لطفى قائمة بأسماء أبطال العرض وصناعة على المائدة فى دلالة سيموطيقية تجعل الحظات داخل العمل مقروءة لكافة مستويات التلقى. الحاجز الرابع إن صاحب المطعم «حسونة» الذى يجسده الفنان مجدى عبيد هو أحد أركان كسر الحاجز الرابع لدى المخرج وهو أيضا نموذج حى يعيش أزهى عصوره فى وقتنا الراهن ورغم أنها شخصية نمطية ومتكررة فى تاريخ الدراما الإنسانية إلا أن اللون المقدم بها مختلف باختلاف التجربة عن غيرها من التجارب التى تابعتها منذ أعوام وقد استثمر فيها المخرج قصر قامة الفنان استثمارا كوميديا وسيموطيقيا خاصة أنه هو المتحكم فى الأحداث بصفته الحاكم صاحب مقدرات عماله وزبائنه حيث تكشف الأحداث عن ضلوعه فى عصابات تهريب الآثار. من خلال استقباله لجورج الأمريكى الذى يجسد شخصيته الفنان رشدى الشامى وزوجته ديانا البريطانية التى تجسد شخصيتها الفنانة وسام صبحى حيث تتأخر صفقة بيع رأس أوزوريس ويتم عقد صفقه أخرى ألا وهى استبدال الرأس الفرعونى برأس صالح بل ويتطور الأمر أن يطلب الثنائى البريطانى الأمريكى رأس أخرى من بين رواد المطعم بعد أن يغلق المخرج كافة الباب الرئيسى فى وجه من يحاول الخروج وهى دلاله تكشف عن قراءة المخرج سياسيا لوضع هو المتسبب الرئيسى وراء تراجعه بطله عن أحلامه وطموحاته وانكساراته وتحول مسار آماله التى تنتهى بقبوله صفقة بيع رأسه مقابل أن تعيش أسرته. ولايفوتنا التأليف الموسيقى المصاحب للعرض لمحمد الشاذلى أو تصميم الديكور لمها عبد الرحمن والأشعار ليحيى شرباش والغناء لضياء سعفان كما كشف عازف الكمان لؤى الصيرفى عن قدرته التمثيلية من خلال المشاهد القليلة التى قدمها إلى جانب مناطقة الأكثر من الرائعة التى صاحبت مناطق العرض المسرحى بقى أن أشير إننا أمام تجربة مسرحية شديدة الثراء تستحق المشاهدة أكثر من مرة.