استقبلنى أنا وأقرانى من الطلاب لأول مرة خلال بداية العام الدراسى 1962/1963 .. بقسم الجرافيك بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وببشاشة وجه مشع بالنور وبقلب حنون وفكر ثاقب وعلم وافر وإبداع ملء الفراغ الكونى .. بحساسية مفرطة .. فهو أستاذ الجرافيكيين المعاصرين بدءاً من الراحلين كمال أمين - إدريس فرج الله - محمود عبد الله .. ومن الأحياء الكثيرين حسين الجبالى - صبرى حجازى - فاروق شحاته - سعيد حداية - حازم فتح الله - عبد المعبود نجيب.. وآخرين من أجيال متعاقبة وكاتب هذه السطور ، كان متفرداً ومتميزاً، واثقاً من نفسه وفنه وعلمه وهو من أجلّ الأساتذة.. لم يبخل علينا بخلاصة إبداعه وعمق تجربته الجرافيكية والتى تعتمد فى المقام الأول فى تنفيذها على وسائل تكنولوجية معقدة .. فى الوقت الذى ظل أساتذة آخرون لا يبوحون بأسرار تقنياتهم ! لذا كان الفنان المصرى العالمى عبد الله جوهر (1916 -2006) الذى رحل عنا الأسبوع الماضى متمكناً من فنه رسماً وطباعةً وأعماله المنفذة بالطباعة الغائرة تعد أعمالاً عالمية تعرض وتصنف فى مقام أعمال رموز هذا الفن فى العالم ، فإبرته المغروزة فى سطح الزنك هى بناء جمالى ملىء بالمشاعر والطاقة .. أستاذى العظيم الذى علمنى كيف أرسم وكيف أحفر فى سطوح الزنك وكيف أحصل على طباعات فنية أصيلة يتوفر فيها شروط الطبعة الراقية.. إلتحق أستاذى بمدرسة الفنون الجميلة العليا العام 1932 وتخرج فى أول دفعة بعد إنشاء قسم الجرافيك (الحفر سابقاً) العام 1937 وتتلمذ على يد الفنان `برنارد رايس` درس بالمعهد العالى للتربية الفنية وتخرج العام 1940، حصل على ليسانس الدراسات العليا من إيطاليا العام 1949، عين مدرساً بالتعليم العام بمدرسة طنطا الابتدائية ثم مدرسة الإسماعيلية الابتدائية ومدرساً بكلية الفنون الجميلة العام 1952 وتدرج حتى الأستاذية ورئاسة قسم الجرافيك وعمادة الكلية ثم أستاذاً متفرغاً حتى وفاته صباح يوم 2 إبريل الحالى، حصل على وسام الجمهورية من الطبقة الثانية من الرئيس الراحل أنور السادات العام 1977، ونوط الام+-تياز من الطبقة الأولى من الرئيس مبارك العام 1985، وجائزة الدولة التقديرية العام 1999، ومن أهم مقتنياته بالمتحف المصرى للفن الحديث بالقاهرة ومكتبة الكونجرس الأمريكى، أبلغنى الفنان حمدى أبو المعاطى أحد تلاميذه بخبر وفاة أستاذى الجليل وكانت فرشة الألوان بيدى .. فعدت بالذاكرة إلى 43 سنة ماضية وأنا أحمل إليه رسومى عن القرية التى رسمتها العام 1960 وبشّرنى خيراً واحتضننى بقلبه وروحه وإبداعه .. شعرت بحنين غير مسبوق من الأب الأستاذ الذى كان عندما يضحك معنا فى لحظات خاطفة كانت عيناه تلمعان وتدمعان من فرط فرحته وعمق سعادته، ترك فينا الأب الفنان تقاليد نادرة وعادات غير متكررة وعلمنا أخلاقيات الفنان المبدع، الإخلاص والاجتهاد والعمل الدؤوب والمغامرة الإبداعية وحرية التعبير وجرأة الرسام وجسارة الحفار واقتحامه مصادر طباعته ، استقبلنى منذ 43 عاماً بابتسامة مازالت تملأ فضائيات تلك السنين التى توالت كالشهب ، مازالت تملأ حياتنا نحن تلاميذه .. حملناه إلى قبره وروحنا تمتد معه إلى أعماق الأرض، بدا مضيئاً وهو يودعنا .. عيناه نفسها تلمعان ثابتتان لا تتحركان وفاضت الروح لتملأ الكون وتكمن فى إبداعاته العظيمة والتى ستظل تطوف بها مدى الحياة ..لم أجد غريباً يودعه تجولت عيناى فالكل تلاميذ ونحن جميعاً الذين قبلنا يديه الذهبية والتى خطت نوراً مضيئاً فى حياتنا ورسمت فى قلوبنا البهجة والسعادة، التفت حوله قلوبنا.. وذهبت روحنا معه نحن التلاميذ امتدت عيوننا إلى باطن الأرض التى احتوت جسده، وتحجرت الدموع فى وقفة مع الزمن الذى لا يتوقف .. نحن تلاميذه الذين علمهم فى عمر الثامنة عشرة نودعه آلافاً ونحن فى الستينيات من العمر .. حياة ممتدة وفن وحب متبادل، وداعاً أيها الفنان الأستاذ الرائد العظيم والأخير . أ.د. احمد نوار