لا يمكن القول إن ما قامت به «ويكيليكس» كان عفوياً أو بمحض الصدفة.. أو فى إطار ما يسمى حرية الإعلام والتعبير، فكل هذه الاحتمالات غير واردة.. رغم ما يتشدق به الغرب من ديمقراطية وانفتاح.. لدرجة الانفلات، وكلنا تابع هذا المسلسل الغربى الشهير «ويكيليكس» منذ أشهر قلائل.. حين ظهر فجأة.. وقام ومازال يقوم.. بأدوار محددة.. من خلال لعبة شديدة التعقيد.. لا نعرف من خباياها الكثير. ولعل الوثيقة الأهم التى لم تنشرها ويكيليكس بعد هى: من يقف وراء هذه اللعبة؟ ومن يحركها؟ وما هى أهدافه؟ والأهم من ذلك: هل شارفت لعبة ويكيليكس على الانتهاء بعد أن حققت المراد.. لتظهر لعبة جديدة بأسلوب جديد.. فى مجال جديد؟! وعندما نقول إن هذه اللعبة مدبرة على أعلى المستويات وتمت بالتنسيق مع أطراف دولية عديدة، فنحن لا نبالغ.. لعدة أسباب: *إن توقيت تسريب هذه الوثائق على مراحل مقصود لإحراج أطراف دون أخرى، فلم تضر الوثائق بكل الأطراف والدول التى تناولتها الوثائق المنشورة.. بل من الغريب أنها لم تضر الولاياتالمتحدة بدرجة كبيرة.. رغم أنها محور هذه الوثائق وجوهرها.. ومصدرها! *عندما نمعن النظر فى الوثائق المسربة نلاحظ أنها ليست على درجة عالية من الخطورة.. بل تم انتقاؤها بعناية فائقة. نعم هى وثائق سرية.. ولكنها ليست الوثائق التى تحتوى على أدق الأسرار وأخطرها، ولا نبالغ أن كثيراً منها تم نشره فى وسائل إعلامية متعددة على مدى السنوات الماضية.. ولكنها كانت معلومات غير رسمية.. فجاءت هذه الوثائق لتصبغ هذه التسريبات بصفة «الرسمية» بعد أن كانت تنتشر فى المجالس الخاصة ولا تتجاوز نطاق الشائعات والأقاويل غير المؤكدة. *عندما نحلل الوثائق بشكل عام.. نكتشف أنه لا يمكن تسريب هذا الكم الهائل (بمئات الآلاف) وبهذه السهولة الغريبة المريبة.. دون مباركة ومشاركة رسمية.. على أعلى مستوى.. بما فى ذلك صانع القرار السياسى وأجهزة المخابرات. ونحن نشك كثيراً فى أن مؤسس موقع ويكيليكس (وليام آسانج) هو البطل الحقيقى والوحيد لهذه اللعبة شديدة السرية والتعقيد. *إن تسريب هذا الكم الهائل من الوثائق فى هذه المرحلة تحديداً وفى قضايا معينة – دون أخرى – هدفه الضغط على دول وأطراف وابتزازها للوصول إلى أغراض سياسية وعسكرية واقتصادية وإعلامية أيضاً. *** وحتى لا تضيع الحقيقة.. نبدأ الحكاية واللعبة.. من أولها! فهذا الموقع Wiki Leaks هو جزء من بوابة (Portal) أكبر تشمل (Wiki pedia) أو الموسوعة الحرة المفتوحة مجاناً للجمهور.. وهى تعانى من ضائقة مالية حالياً.. لا ندرى هل لها علاقة بأزمة ويكيليكس أم لا؟ وكلمة Wiki Leaks معناها «مكوك التسريبات». ويقول مؤسسوها إن هدفهم حماية من يفضحون الناس ويكشفون الأسرار والدفاع عن حقوق الإنسان. بدأ هذا الموقع نشاطه قبل نحو ثلاثة أعوام من خلال تواصل إلكترونى بين مجموعة من المدافعين عن حقوق الإنسان فى أنحاء العالم.. كان هدفهم كشف هذه الانتهاكات وفضحها عبر الشبكة العنكبوتية. وكان الشاب الاسترالى ويليام آسانج هو محور هذا الموقع وقلبه النابض.. وقد تم اعتقاله فى لندن قبل أيام بعد أن طاردته دول عديدة ولاحقه الإنتربول الدولى فى كل مكان، وبدأ آسانج رحلة البحث عن الأسرار فى 23 يوليو الماضى.. عندما نشر مئات الآلاف من الوثائق السرية للبنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية).. خاصة فيما يتعلق بانتهاكات الجيش الأمريكى فى العراق وإفغانستان. هذا الرجل كان ذا طفولة شديدة التقلب.. حيث تنقل بين 37 مدرسة.. واحترف القرصنة الإلكترونية (Hacking).. حيث كان يخترق ويسطو على العديد من المواقع، وألقت الشرطة الاسترالية القبض عليه.. وخرج من القضية بغرامة وبوعد بتحسين السير والسلوك!! وكعادة شركات تأمين المواقع والمعلومات.. استعانت به إحدى الشركات الأمنية ليعمل مستشاراً لديها.. فلا يوجد أفضل من القرصان لحماية الأمن!! لماذا؟! لأنه يعلم خبايا القراصنة ويجيد فنونهم وألاعيبهم!! وبعد ملاحقته لنشره وثائق البنتاجون انتقل إلى أيسلندا والسويد، ثم إلى لندن حيث دخل المصيدة بنفسه رغم أنه هدد قبل اعتقاله بنشر كافة الوثائق التى لديه – من خلال عشرات الآلاف من الأشخاص الذين يملكون كلمة السر الخاصة بها – وهم موزعون على كافة أنحاء العالم!! هدد آسانج بذلك إذا تم اعتقاله بطريقة غير قانونية!! *** وبغض النظر عن احتمالات اعتقاله أو إغلاق موقعه فإن ويكيليكس حققت الهدف المرجو والمنشود والمخطط بدقة فائقة!! وهنا يجب أن نتوقف عند أحد نماذج الوثائق المسربة.. وهو يخص قناة (الجزيرة) القطرية، فهذه القناة تدعى المصداقية وترفع شعار (الرأى والرأى الآخر) وأنها مستقلة «تحريرياً»!! الوثائق التى سرّبتها ويكيليكس تؤكد أنه يتم استغلال المعالجة الإعلامية لكافة مواد ونشرات «الجزيرة» لتحقيق أهداف سياسية «رسمية»، ويتم استغلال هذه القناة حسب مستوى العلاقات السياسية والدبلوماسية.. حيث يتم رفع مستوى الهجوم على دولة معينة لتحقيق أهداف أخرى.. بينما يتم تخفيف الضغط على أطراف أخرى.. حسب الظروف والعلاقات والتطورات الإقليمية والدولية. وقال السفير الأمريكى فى قطر: إن قدرة الجزيرة على التأثير فى الرأى العام فى كل المنطقة هى مصدر جوهرى لنفوذ قطر.. هذا ما ذكرته الوثيقة التى نشرتها ويكيليكس وصحيفة الجارديان البريطانية، وأضاف السفير: أن الجزيرة تظل واحدة من أكثر وسائل قطر الدبلوماسية والسياسية قيمة. إذاً فلا توجد مصداقية ولا حرية.. وإنما متاجرة بالإعلام وبالوسائل المتاحة إعلامياً لخدمة أهداف سياسية ودبلوماسية قطرية، والرأى المعروض فى الجزيرة حسب الأهواء والأجواء.. وكذلك الرأى الآخر.. وكل الاتجاهات «المعاكسة» وغير المعاكسة! ومثل «الجزيرة» جرى استخدام «ويكيليكس» لأهداف مختلفة ولتحقيق غايات متباينة.. ليبقى الإعلام أسيراً للألاعيب والمناورات الخفية.. ولتظل الحقيقة ضحية الجميع.. ونظل نحن غارقين وسط سيول متضاربة.. وموجات هائجة.. من كل الاتجاهات.