«عُينت فى مكتبى منذ ثلاث سنوات موظفة شابة، كانت مهمتها فتح خطاباتى وتصنيفها، وكتابة ما أمليه عليها. وكان مرتبها يعادل من هم فى مثل وظيفتها البسيطة. وفى أحد الأيام أمليت عليها - ضمن كتاب كنت أقوم بتأليفه - هذا الشعار:«تذكر أنه ليس هناك حدود لقدراتك إلا ما تصنعها أنت بنفسك داخل عقلك» وحين أعطتنى الورقة التى طبعت عليها ما كتبته لأراجعه، قالت لى: إن شعارك هذا جلب لى فكرة ستكون لها قيمة لكلينا». أعربت لها عن سعادتى بأن كلماتى أفادتها بشكل أو بآخر، ومضيت دون أن يكون لهذا الموقف أى أثر فى ذاكرتى، إلا أنى لاحظت أنه كان له أثر ضخم على تفكيرها وسلوكها». هذه مقدمة لقصة حقيقية يرويها الكاتب والمفكر الأمريكى الراحل نابليون هيل فى كتابه «قانون النجاح» الذى أشرت إليه فى مقال سابق بأنه صدر عام 1928 وكان ولا يزال مصدر الهام لكل خبراء التنمية الذاتية فى العالم. يستكمل قصة السيدة قائلا:«منذ ذلك اليوم اعتادت أن تعود للمكتب بعد العشاء، وتقوم بأعمال إضافية لم يطلبها أحد منها، وما كانت تتلقى عليها أجرا إضافيا. فكانت مثلا تكتب بعض الردود على الخطابات التى كانت تصلنى، بعد أن درست أسلوب كتابتى وتفكيرى، وتعرضها على فأجدها كما لو أنى كتبتها بنفسى، بل فى بعض الأحيان أفضل مما كنت سأكتبه». تنمية الذات والأدوات /U/ «هكذا ظلت هذه السيدة الشابة على عادتها (تقوم بأعمال إضافية دون المطالبة بأى أجر) لأكثر من عام، وإلى أن حدثت بعض الظروف التى استدعت سكرتيرى الخاص للاستقالة، وحين أردت أن أبحث عمن يحل مكانه، كان من الطبيعى للغاية أن أعيّن هذه السيدة، فقد كانت تؤدى مهام الوظيفة فعلا. وصارت سكرتيرتى الخاصة رسميا. وليس هذا هو كل شىء، بل إن كفاءتها الملحوظة صارت تلفت انتباه الجميع، وأخذ المديرون يعرضون عليها وظائف جذابة. لقد رفعت راتبها عدة مرات، وصار الآن أكثر من أربعة أضعاف ما كانت تأخذه فى بداية تعيينها». طاقة تتحول إلى برنامج عمل/U/ «إن تلك السيدة عبّرت عن روح المبادرة التى تتمتع بها، فى خطوات عملية وواضحة، وهذا ما جعلها تبدو فى غاية السعادة والإشراق، وهى تقوم بالعمل البسيط كناسخة على الآلة الكاتبة، وهو ما لم يكن يتمتع به زملاؤها الآخرون. فرغم أنها كانت تأتى قبل الجميع صباحا، وتنصرف بعدهم جميعا بساعات، فإنها كانت تشعر أن الوقت يمضى عليها سريعا، بينما الآخرون يستعجلون عقارب الساعة أن تصل بهم إلى وقت الانصراف سريعا. فمن الطبيعى لمن يكون سعيدا أن يشعر بأن الساعات الطوال تمضى كلمح البصر، بينما من يخلو قلبه من السعادة تمر عليه الدقيقة الواحدة وكأنها دهر كامل من الملل». جاءت قصة هذه السيدة فى إطار توضيح الكاتب لسر من أسرار النجاح فى الحياة عموما، وهو أن يكون لدى الإنسان الاستعداد أن يبذل جهدا لا يتوقع منه كسبا ماديا سريعا. والأهم من ذلك أن تأتى تلك الخطوة من الشخص طواعية وبوعى، لا استسلاما لقهر الرؤساء، أو خوفا من فقدان الوظيفة مثلا، أو لغياب الشجاعة التى يجرؤ بها على رفض وضع ظالم. فهذه الحالات الأخيرة لا تؤدى أبدا للنجاح، لأنها تكسر نفس الشخص، وتهدم داخله الكرامة الإنسانية، وتُفقده كل حماسة لأى شىء، فيصير العمل قطعة من الشقاء، لا يمكن معه أن يتقنه، أو يطّور نفسه فيه. الفرصة تأتى حين نكون مستعدين/U/ قرأت السيدة الشعار «تذكر أنه ليس هناك حدود لقدراتك إلا ما تصنعها أنت بنفسك داخل عقلك»، وكأنه موجه لها هى شخصيا، يقول لها: «ابحثى عن قدراتك الكامنة وطوريها». فكانت الساعات الإضافية الطويلة التى تمضيها فى العمل هى عملية «بناء ذاتى» أخذت فيه تدرس أفكار وأسلوب كتابة رئيسها فى العمل، ومن المؤكد أنها كانت أيضا تقرأ أشياء أخرى تساعدها على الفهم، وتطور لغتها وتتمكن من أدواتها فى التعبير، وتدرس محتوى الرسائل التى تأتى من القراء لتعرف ما يهمهم. حين استعدت تماما جاءت لها الفرصة على طبق من فضة. روح المبادرة التى تمتعت بها هذه السيدة-كما يصفها نابليون هيل- تأتى فى منظومة متكاملة تقول فكرتين أساسيتين: 1-المبادرة تبدأ بأن ينمى الشخص نفسه بالعمل دون طلب المقابل فورا. 2-حين تعمل ما تعمله وأنت سعيد فتلك خطوة تقودك للنجاح. أؤكد على هاتين النقطتين بالذات ضمن منظومة كاملة لأنهما يظهران لنا شيئا مهما لا يفعله معظمنا، فنحن مثلا لا نبذل جهدا إلا إذا كان الحافز أمامنا عيانا بيانا، كأن يقال لنا: إذا فعلت كذا ستقبض كذا، فإن لم يقل لنا أحد شيئا، لا نجد أى حافز للعمل. النقطة الثانية هى أننا نعتقد أن السعادة تأتى حين ننجح فى شيء ما، فنحن غالبا ما نعلق سعادتنا على تحقيق شيء بعينه. وهذا أيضا عكس ما يقوله الكاتب: فسعادتك بما تعمل هى التى ستجعل النجاح حليفك. وفى هذين النقطتين يكمن معنى كلمة «المبادرة». المبادرة حرية ونجاح/U/ الفرق بين الحالين اللذين يشرحهما الكاتب وبين الحاليين العكسيين اللذين يعتقدهما ويمارسهما معظم البشر، هو أن من لديهم روح «المبادرة» يعتمدون فى تفكيرهم وخطواتهم على حوافز داخلية يؤمنون بها، ويستمدون منها الطاقة على بذل الجهد، وذلك فى ذاته يمنحهم السعادة التى تجعلهم يثابرون على ساعات طويلة من العمل بكل ثقة دون ملل أو كلل. أما الذين أعطوا زمام قيادة أحوالهم لعناصر خارجية كاملا، فهم يشعرون - دون وعى بالسبب الحقيقى - بأنهم مكبلون وأذلاء للآخرين الذى يملكون أن يمنحوهم أو يمنعوا عنهم الجزاء، وهذا كفيل بأن يسحب من داخلهم أية طاقة على العمل، فكثيرا ما يصيبهم الكسل والخمول، وطبعا الملل. وطبيعى ألا ينجحوا فى الحياة. هكذا صار الفرق شديد الوضوح بين الأشخاص «الناجحين»، وبين «الفاشلين» الذين دوما ما يعلقون أسباب فشلهم على الآخرين، والظروف، وأحوال المجتمع.. إلخ. بطبيعة الحال لا يمكن إنكار دور البيئة العامة فى توفير طاقة مشجعة للجميع، لكن موضوع القصة اليوم، هو كشف عن قانون من قوانين النجاح التى إذا عاشها الشخص، مهما كانت الظروف، فهو لا بد أن يصل للنجاح، ذلك لأنه لا يقبل لنفسه أن يكون ضحية أى شخص أو أى حدث، بل يكون قد عقد العزم على أن ينمى نفسه بكل الوسائل، وهذا التركيز الكامل على هدفه، لا يترك له وقتا أو رغبة فى لعن الظروف أو الشكوى من الناس، فهو لا يركز فى حياته إلا على ما يقربه لهدفه، وهذا التركيز يخلق داخله طاقة غير عادية، بينما من اختار أن يكون ضحية الآخرين والظروف يتفرغ من الطاقة تماما. ومن الجدير بالذكر أن وجود الطاقة هو سبب لوجود السعادة، وليس النتائج فى ذاتها هى سبب السعادة، لذلك حين تحدث بعض العراقيل أمام «المبادر»، أو نوع من الفشل لسبب ما، لا تتوقف الطاقة والحماسة داخله، وبالتالى لا تتوقف السعادة، ذلك لأن مثل هذا الشخص «المبادر» يقرأ ما يحدث على أنه تحديات جديدة، أى تحفيز لمعرفة أكبر، فتأتى له طاقة أكبر وسعادة أكثر. بينما من يفتقد روح المبادرة يفقد الأمل سريعا، وينكسر أمام أضعف الرياح، وينهزم أمام أية عقبة. الفرق كبير بين هذا وذاك. لكن الشىء الجميل الذى يقدمه هيل هو أننا إذا فهمنا هذا السر، يمكننا جميعا أن نتعلم كيف نفكر ونتصرف وفقا لقوانين النجاح. روح المبادرة وتحويلها إلى برنامج عمل فى الحياة، كما فعلت بطلة قصتنا، ينطبق على الحياة كلها، فشعار هيل «تذكر أنه ليس هناك حدود لقدراتك إلا ما تصنعها أنت بنفسك داخل عقلك»، يحثنا على تفجير طاقاتنا فى كل مناحى حياتنا، الخاصة منها والعامة، دون أن ننتظر الظروف، ودون أن نعول على أى أحد مساعدتنا، بل «نركز» على تنمية أنفسنا فى كل مجال وأى مجال نقرره أو نختاره، ولا نتعجل الثمرة، فهى آتية لا محال، تسرع إلينا، وقت أن نكون مستعدين. باختصار.. لا تفكر أبدا فى الثمرة.. ولا تتعجلها.. فكر فقط فى تنمية نفسك.. فى الوصول لهدفك، وكلما ظننت أن هناك من يستطيع أن يهزمك « تذكر أنه ليس هناك حدود لقدراتك إلا ما تصنعها أنت بنفسك داخل عقلك».