اختلفنا أو اتفقنا مع أخلاقيات نشر الوثائق السرية الدبلوماسية على المواقع الإلكترونية.. فإن الوثائق التى نشرت مؤخراً على موقع ويكيليكس الإلكترونى أحدثت إعصاراً سياسياً لم يتم حتى الآن رصد تداعياته.. الوثائق المنشورة، والتى عادت للاختفاء بعد اختفاء الموقع نفسه من على شبكة الإنترنت يمكن اعتبارها فضائح سياسية من العيار الثقيل.. على سبيل المثال وليس الحصر.. الاقتراح الذى تقدمت به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لكبار المسئولين فى الإدارة الأمريكية للضغط على إسرائيل لإجبارها على وقف عمليات الاستيطان.. وضغوط إسرائيل على أمريكا لمنعها من بيع أسلحة متقدمة لبعض الدول العربية.. ثم المباحثات غير المباشرة بين السوريين والأمريكيين وتأكيدات سوريا بأن إيران لن تضرب إسرائيل نووياً.. وتأييد رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكى لمسألة عودة مرتفعات الجولان لسوريا.. ومطالبة عدد من الدول الخليجية أمريكا بتوجيه ضربة لإيران خوفاً من برنامجها النووى!.. ولست معنيا - على الأقل هذه المرة - بالحديث عن هذه الأسرار والفضائح وإنما الذى يعنينى بالدرجة الأولى ما كشفت عنه الوثائق فيما يتعلق بموقف مصر والرئيس مبارك من حرب العراق.. فقد أكدت هذه الوثائق أن الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش هو مسيلمة العصر الحديث!.. الرئيس مسيلمة زعم فى مذكراته التى نشرها مؤخراً فى كتاب يحمل عنوان «نقاط القرار» أن مصر حرضت الولاياتالمتحدة على العراق، وأن الرئيس مبارك أخبره بأن صدام حسين يمتلك ما هو أخطر من الأسلحة النووية.. يمتلك الأسلحة البيولوجية.. الرئيس مبارك لا يحتاج بالطبع لشهادة موقع «ويكيليكس» وغيره.. فالعالم كله يعرف موقفه من غزو العراق.. غير أن الشهادة هذه المرة تأتى من أهلها.. فالموقع الأمريكى الذى نشر وثائق أمريكية أكد أن الرئيس مبارك وجه تحذيرات قوية للرئيس السابق جورج بوش.. وكما جاء فى الوثيقة المنشورة فى هذا الشأن فقد اعتبر الرئيس مبارك أن الحرب التى قادتها الولاياتالمتحدة على العراق عبث خطير بأمن واستقرار المنطقة.. وأشارت الوثيقة إلى أن الرئيس مبارك وصف الرئيس الأمريكى السابق بوش بأنه لا ينصت إلى النصيحة.. وأظننا نذكر أن السفير سليمان عواد المتحدث الرسمى باسم رئاسة الجمهورية نفى مزاعم الرئيس الأمريكى بوش قبل نشر الوثائق الأمريكية على موقع «ويكيليكس».. أظننا نذكر أنه قال كلاما حاسما وواضحا عن موقف مصر من الحرب على العراق.. وعرفنا من كلامه الكثير.. عرفنا أن الرئيس مبارك حذر الرئيس بوش الأب من دخول القوات الأمريكية للعراق فى أعقاب حرب تحرير الكويت.. وعرفنا أن الرئيس مبارك طلب من بوش الأب إقناع بوش الابن أن يصرف النظر عن فكرة شن الحرب على العراق خوفا من تداعيات هذه الحرب على المنطقة.. وإذا كان كلام السفير سليمان عواد يتفق ويتوافق مع ما ذكرته الوثائق السرية المنشورة على موقع «ويكيليكس» فالمعنى أن مواقف الرئيس مبارك المعلنة هى نفسها مواقفه داخل الغرف المغلقة.. وأن مبادئه لا تتجزأ ولا تتغير.. وأن الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش.. هو النسخة العصرية لمسيلمة الكذاب!.. ??? والحقيقة أننى أجد تشابها كبيرا بين الشخصيتين.. شخصية الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش وشخصية مسيلمة بن حبيب الحنفى.. والذى عرف باسم مسيلمة الكذاب!.. مسيلمة بن حبيب ادعى النبوة وزعم أنه تلقى وحيا من السماء كما تلقاه النبى محمد صلى الله عليه وسلم.. وأنه والنبى شركاء فى النبوة!.. وكذلك الرئيس جورج بوش.. فقد زعم هو الآخر أنه تلقى وحياً من السماء لتحرير شعوب الأرض ورفع الظلم عنها وتحويلها إلى شعوب ديمقراطية!.. الاثنان أيضاً كانا من ذوى الثروة والسلطة.. مسيلمة الكذاب كان مسيطراً على مساحة واسعة من منطقة شرق الجزيرة العربية.. فكانت أراضيه وممتلكاته أوسع وأكبر من أراضى وممتلكات المسلمين.. وكذلك بوش الكذاب.. فقد كان ولا يزال ثريا وصاحب جاه وسلطان.. سواء وهو رئيس للولايات المتحدة أو قبل دخوله البيت الأبيض.. ثم أن الاثنين يقولان كلاما فارغا!.. فعندما ادعى مسيلمة النبوة سأله أتباعه أن يقرأ عليهم ما يأتيه من السماء فقال لهم: يا ضفدع بنت ضفدعين.. نقى ما تنقين.. نصفك فى الماء ونصفك فى الطين.. لا الماء تكدرين ولا الشراب تمنحين!.. أما الرئيس بوش فلم يقل فى حياته وفى كل خطبه وأحاديثه إلا كلاماً فارغاً!.. وبعد ذلك كله وربما قبله فإن الإثنين - بوش الكذاب ومسيلمة الكذاب - يشتركان فى صفة أصيلة ومتأصلة فى شخصيتهما.. الكذب.. فاستحق كل منهما أن يكون أكذب عصره!.. والحقيقة أن أكاذيب الرئيس السابق بوش لم تطل مصر وحدها ولا الرئيس مبارك وحده.. ولكنها طالت عددا كبيرا من الرؤساء والزعماء.. آخرهم المستشار الألمانى السابق جيرهارد شرودر الذى زعم بوش أنه أيد غزو العراق قبل وقوعه لكنه عاد فأعلن معارضته لأسباب انتخابية.. ويفضح المستشار الألمانى شرودر كذبة بوش فيقول إنه قال له إنه سيؤيد أمريكا لو قدمت الدليل على تورط صدام حسين مع القاعدة.. لكن ألمانيا تأكدت أن كل مزاعم بوش حول العراق غير صحيحة!.. وهكذا يثبت الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش أنه كذاب كبير.. وكيف لا يكون ومجيئه إلى البيت الأبيض.. كذبة كبيرة؟!.. ??? اظننا جميعاً نذكر الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى جرت فى عام 2000 والتى فاز فيها جورج دبليو بوش المرشح الجمهورى على منافسه الديمقراطى آل جور.. فى هذه الانتخابات حصل آل جور على عدد من الأصوات يبلغ خمسين مليونا وحوالى 993 ألف صوت.. بينما بلغ عدد الأصوات التى حصل عليها بوش خمسين مليونا وحوالى 455 ألف صوت.. أى أن آل جور فاز بعدد أكبر من الأصوات، لكن طبقاً لنظام الانتخابات الأمريكية فإن الفوز فى الانتخابات الرئاسية لا يحسب بعدد أصوات الناخبين وإنما يحسب بأصوات المجمعات الانتخابية.. ويبلغ عدد هذه الأصوات 538 صوتاً موزعة بنسب مختلفة باختلاف الكثافة السكانية لكل ولاية أمريكية.. وبحيث تذهب جميع أصوات الولاية لصالح المرشح الفائز بأصوات الناخبين.. حتى ولو كان فوزه بفارق ضئيل.. وطبقاً لهذا النظام فقد حصل جورج بوش على 271 صوتا من أصوات المجمع الانتخابى مقابل 266 صوتاً حصل عليها منافسه آل جور.. وبالطبع فإن ولاية واحدة من الولايات الخمسين يمكن أن ترجح كفة مرشح على مرشح آخر.. وقد كانت هذه الولاية فى انتخابات عام 2000 هى ولاية فلوريدا التى لو كان فاز آل جور بأصواتها لفاز بالانتخابات الرئاسية.. لكن الذى حدث أن جورج بوش هو الذى فاز بها.. وإن كان فوزا غريبا ومشكوكا فيه!.. أكدت التحقيقات التى جرت فى أعقاب فرز الأصوات فى ولاية فلوريدا أن عشرات الآلاف من البطاقات الانتخابية التى ترسل بالبريد للناخبين.. لم تصل إليهم!.. ومن ثم فقد حرم عشرات الآلاف من الإدلاء بأصواتهم.. التحقيقات أكدت أيضاً وجود مخالفات جسيمة عند فرز الأصوات.. على سبيل المثال فقد تم اكتشاف نحو مائة وخمسين صوتا أدلى بها ناخبون غير مؤهلين للانتخاب.. كما أكدت التحقيقات أن هناك أصواتا لأشخاص ماتوا!.. فى نفس الوقت تبين أن ثلاث عشرة ماكينة اقتراع من إجمالى عشرين ماكينة بها أعطال فى اثنتين من الدوائر الانتخابية اللتين بهما أعلى معدل من المخالفات!.. وعلى الفور قدم محامو المرشح آل جور طعنا فى نتائج انتخابات ولاية فلوريدا وطالبوا بإعادة فرز فورية لجميع البطاقات الانتخابية فى اثنتين من مقاطعات ولاية فلوريدا.. لكن أعضاء الهيئة التشريعية لولاية فلوريدا التى يسيطر عليها الحزب الجمهورى عقدوا جلسة طارئة حاولوا خلالها التشكيك فى دعاوى محامى آل جور.. وبدأت بالفعل عملية إعادة فرز الأصوات لكن حكما مفاجئا من المحكمة العليا بولاية فلوريدا أوقف عملية إعادة الفرز!.. وكان فى إمكان محامى آل جور أن يستأنفوا دعواهم ويطالبون بإعادة فرز الأصوات.. لكن آل جور نفسه طالبهم بالتوقف مستسلما للنتائج المشكوك فيها.. وهكذا فاز جورج دبليو بوش بالانتخابات الرئاسية!.. قالوا إن آل جور تعرض لضغوط هائلة لكى يعلن استسلامه ويعترف بفوز بوش.. وأغلب الظن أن مصدر هذه الضغوط كانت من المحافظين الجدد الذين خططوا لوصول بوش إلى البيت الأبيض لكى ينفذوا خططهم ومخططاتهم فى العراق وأفغانستان وغيرهما.. وصدق الرئيس بوش أنه وصل إلى البيت الأبيض بانتخابات نزيهة وغير مزيفة.. صدق الكذبة الكبرى.. وراح يكذب بعد ذلك!.. ??? يقول العرب فى أمثالهم: «أكذب من مسيلمة» عندما يصفون شخصا بالكذب.. وعلى الرغم من التشابه الكبير بين الاثنين مسيلمة الكذاب وبوش الكذاب إلا أن المثل لا يصلح للرئيس الأمريكى.. فلم يعرف العالم أكذب منه!..