يُحكى أن صديقين كانا يسيران فى صحراء واسعة، وكانا يتحدثان فى أمور شتى، واختلفا فى الرأى، فإذا بهما يحتدان فى المناقشة إلى درجة أن واحدا منهما صفع الآخر على وجهه. تألم الصديق الذى تلقى الصفعة بطبيعة الحال، ولم يقل أى شىء، لكنه جلس على الرمال وكتب عليها: «اليوم صفعنى صديقى الحميم على وجهى» استمر الرجلان فى السير وهما صامتان، إلى أن وصلا إلى واحة، وقررا أن يستحما بالماء، إلا أن الذى تلقى الصفعة من صديقه، زلت قدمه فيما يشبه بحيرة من الطمى الزلق وأخذ يغوص فيها حتى كاد يغرق، فأسرع صديقه بالإمساك به وجذبه إلى أن خرج لمنطقة آمنة، منهك القوى. وبمجرد أن استرد الرجل قوته أسرع إلى حجر قريب وكتب عليه:«اليوم أنقذنى صديقى الحميم من موت محقق». فى تلك اللحظة سأله صديقه قائلا:«حين أذيتك كتبت ذلك على الرمال، وحين أنقذتك كتبت الحدث على الحجر. فلماذا فعلت ذلك؟» أجابه الصديق قائلا:«حين يؤذينا أى شخص علينا أن نكتب ذلك على الرمال حيث ستجئ الرياح فتمحو ذكرى الألم، وحين يفعل أى شخص معنا عملا طيبا علينا أن نحفره على الحجر حتى لا تستطيع أعتى الرياح أن تمحوه أبدا». السير فى ركب «اجترار الأذى»/U/ هذه القصة الرمزية البسيطة تشير إلى شخص تصرف بطريقة تختلف عما يفعله معظم البشر، فهم يكتبون الأذى على الحجر، ويكتبون المعروف على الرمال. وهذا نوع من التفاعل العشوائى يأتى حين تتملك كل ملكات «النفس الدنيا» من قيادة تفكيرنا وتصرفاتنا، فتجعلنا نقول عن شخص ما:«أنا لن أنسى أبدا ما فعله بى». وحتى حين تحاول طبيعتنا الفطرية الأكثر نقاء أن تجعلنا ننسى، وربما تنفتح قلوبنا من جديد لمن آذانا، إذا بالنفس الدنيا تحيى حادث الأذى فى تفكيرنا، وتجعلنا نكرر ما تريده منا آلاف المرات:«لن أنسى أبدا ما فعله بى.. لن أنسى أبداً.. لن أنسى». ومع تذكر الأذى الذى كتبناه على «صخور» أنفسنا، تتجدد مشاعر الألم، فتكون كالوقود الذى يشعل نيران الكراهية أو الغل تجاه من آذانا، ولا يسمح لها أن تخبو أبدا. إنها فعلا تأكل الأخضر واليابس، لأننا لا نتذكر لنفس هذا الشخص العمل الطيب، وقد محت رياح النسيان أثره من على الرمال التى كتبناه عليها. ومن الغريب أنه رغم أن ذلك التمسك الآلى بما آذانا به الآخرون يجدد جروحنا وآلامنا باستمرارا، إلا أن هناك لذة خفية نستشعرها فى إحياء ذكرى الألم، وتجديد إدانة الفاعل. إنها لذة الإحساس بأنى «ضحية» الآخرين. هذا ما تحاول النفس الدنيا ترسيخه بقوة داخلنا، لأن هذا الإحساس هو غذاؤها الذى تحافظ به على كيانها. فهى تجعلنا نستسهل إرجاع الخطأ برمته إلى «الجانى». كما توهمنا بأن نسيانه يُعد تهاونا فى حقوقنا وكرامتنا، وأنه سيشجعه على مزيد من الظلم لنا. فالنفس الدنيا تجعلنا لا نميز بين «التسامح» وبين «التهاون». وتوهمنا بأن «التسامح» يغلق الباب أمام حقنا فى المطالبة بحقوقنا المشروعة. وهذا ليس هو الحال، ولا المطلوب. وليس غريبا على من ينساق وراء منهجية النفس الدنيا المحكمة أن يكتب إيذاءه هو للآخرين على الرمال، ويكتب أى عمل طيب يقوم به على الحجر، فهذا أيضا جزء من الآلية نفسها، فيجعلنى أقول وأكرر:«أنا لم أفعل معك إلا كل خير، ولم أنل منك إلا الجحود». فهذا الإحساس يرسخ الاعتقاد بأنى «ضحية» على مستوى أعمق، لأن عقل مثل هذا الشخص يضخم ما فعله هو من خير، وما فعله الآخرون من أذى. ويقلل من شأن أى خير فعله الآخرون، ويتغاضى عما فعله هو من شر. وهذا هو أساس الدائرة المفرغة من لذة الإحساس بالظلم من الآخرين. المواقف دوما اختيار/U/ الخروج من هذه الدائرة المفرغة إلى ساحة العدل والتسامح مع النفس والآخرين تسبقها خطوات محددة، أولها «الرغبة الصادقة» فى الخروج. فبدون هذه الرغبة لن يخرج الشخص أبدا من تلك الدائرة، مها قال أو ادعى أنه يحب الحق والعدل. فالرغبة الصادقة ليست مجرد قول أو قبول سطحى للفكرة، إنها إرادة داخلية تُؤهل الشخص لتحمل تبعات البحث عما هو عدل وحق، وأن يبذل الجهد المطلوب نفسيا للتخلص من صفات النفس الدنيا المتغلغلة فى كيانه. إن الرغبة الصادقة هى بمثابة وقود نفسى يمد صاحبه بالقدرة على المرابطة وعدم الانهزام أمام الطاقة المقابلة من النفس الدنيا. مع الرغبة الصادقة يأتى التدريب على إحضار «الشاهد الداخلى» لرؤية ما يحدث بموضوعية. وهذا يحتاج إلى التدريب على التواصل مع منطقة أرقى داخل كل منا لديها القدرة على أن تشاهد ما يحدث، فهى تقف على مسافة تجعلها تراك وترى الآخر بصورة خالية من أى تحيز. فغياب الموضوعية هو ببساطة عدم القدرة على رؤية أى شىء إلا من منظور «نفسى» بحدودها وأهوائها. فالتدريب على حضور «الشاهد» هو تدريب على الانفصال عن هذه النفس. والجميل فى هذا الأمر هو أنه بمجرد هذا الانفصال عن النفس الدنيا، وتوجيه الطلب لوجود «الشاهد الداخلى»، يجد الشخص نفسه تلقائيا متواصلا مع طاقة أعلى من المحبة والعدل والتسامح، تجعله يرى بوضوح المنطق المتهافت للنفس الدنيا، ويجد لديه القوة المعنوية لاتخاذ قرارات صائبة وأخلاقية. وهذا هو ما حدث مع بطل قصتنا الذى تصرف بتلقائية شديدة بما يليق بالموقف، فى حالة تلقى الأذى، وفى حالة استقبال المعروف من صديقه. فتلقائيته الواعية، ما كانت إلا ثمرة تجديد الرغبة الصادقة لاختيار صائب، والتدرب الدائم على حضور الشاهد الداخلى فى كل المواقف. وهذا طريق يحتاج إلى أن نسيره بتأن، وعلى هدى. الطريق خطوات متتالية/U/ الصحراء التى كان الصديقان يسيران فيها فى قصتنا اليوم هى رمز لحياتنا الأرضية، نعيشها معا فنتفق ونختلف. يوم يأتى نؤذى فيه بعضنا البعض، عن غير قصد، وربما عن ضعف، أو جهل. ويوم آخر يأتى ننقذ بعضنا البعض، فلا أحد منا يخلو من نزوع للتعايش بحب. لكن التسامح والاتساع يغيب عنا، وكأن هناك من يسرقه منا، ويترك لنا الضغينة والبعد والجفوة، ونحن مغيبون. التنبه لتنمية الوعى هو أن نرى هذا «السارق» الذى يجردنا من أغلى «ثرواتنا الطبيعية» المعنوية. والمحافظة على تلك «الثروات» واستثمارها إنما هو «الطريق» الذى نسير فيه على هدى، فلا نضيع فى صحراء الحياة. والهدى هو أن نحدد الاتجاه الذى سنسير فيه، ولا نترك أنفسنا لعشوائية النفس الدنيا. والخطوة التى نتخذها للأمام فى الاتجاه الذى حددناه تتم حين نتعرض لموقف ما، فنختار دون تردد أن نتذكر «رغبتنا الصادقة» فى أن ندعم «العدل والتسامح»، ثم نتوجه فورا لدعوة «الشاهد الداخلى» للحضور ورؤية الأمر، ثم نتخذ القرار أو التصرف الملائم، حتى تتم هذه الخطوة بنجاح، وتأخذنا لموقف جديد يمهدنا لخطوة أخرى للأمام، سنجد أن الأمر لا يتم بتلك السهولة والسلاسة التى يقال بها، وهذا يجعلنا نتذكر أساسا آخر، وهو الاحتياج للعون.. عون من «مصدر العدل والمحبة والتسامح والقوة». وهذا يتم بالوصلة به فى الدعاء والتأمل والعبادة، التى تجعل كل خطواتنا «على هدى». وإلى جانب الطاقة التى نشعر بها فى الوصلة بهذا المصدر الأعلى، نجده يتجلى علينا أيضا من خلال المحبة والعون اللذين نلمسهما بوجود من حولنا من أهل وأصدقاء وأحباب. فهل يرفض أحد أن يكون الناس جميعا هم أهله واصدقاؤه وأحبابه؟ تدريب: تأمل جيدا دائرة علاقاتك، وأسباب وجود بعض الجفوة أو اللوم أو النفور من بعض افراد الأسرة أو الأهل أو زملاء العمل. استحضر المواقف التى ولّدت هذه المشاعر. حاول أن تستلهم المنهج المذكور أعلاه. ماذا سيحدث؟