كان «ثروت» رجل أعمال ناجح إلى أقصى درجة، وكان أحد أسباب نجاحه هو شخصيته الجذابة، وما يتمتع به من لباقة شديدة، وحديث شائق، وسرعة بديهة، مع روح فكاهة، وذكاء اجتماعى خارق. وفى أى مجلس أو حفل، كانت المنضدة التى يجلس عليها بمثابة المغناطيس الذى يجذب إليه رجالا وسيدات يتنافسون على الاستمتاع بمجلسه. وفى عمله، كان يقرب إليه من يعملون معه، ويتباسط معهم فى الحديث ويجاملهم فى كل المناسبات، مما جعلهم يعشقونه، ويتقنون عملهم حبا واحتراما له. أما فى بيته، ومع أسرته، فقد كان الأمر يختلف تماما بمجرد دخوله لمنزله، يتحول إلى شخص آخر، قليل الكلام، عزوف عن الاستماع لزوجته أو لأبنائه. وما كان «ثروت» ليسمح لنفسه قط بأن يظهر لهم مشاعره، سعيدة أم حزينة. فيوم أن أصيب ولده بمضاعفات الحصبة، خرج من البيت متظاهرا بأنه لا يمكنه أن يترك شغله، بينما أغلق مكتبه على نفسه وظل يبكى لساعات. وحينما نجت زوجته بأعجوبة من حادث سيارة، ما فعل إلا أن قال لها: «حمدالله على السلامة»، بينما وقفت هى مذهولة لأنه أسرع الخطى إلى حجرة مكتبه دون حتى أن يستفسر عن التفاصيل. ودون أن تدرى زوجته بشىء، منح «ثروت» مرتب شهر إضافى لجميع العاملين بشركاته، ليحتفل مع نفسه بنجاة زوجته، ودون أن يخبر أى مخلوق. كانت زوجته توقن بأنه يحبها، ولكنها تفشل مرة تلو الأخرى فى حثه بكل الطرق على أن يعبر عن حبه بكلمات لطيفة، أو لمسات حانية، أو حديث من القلب يفضى لها فيه بمكنون نفسه. كانت تشعر دائما - حتى فيما يفترض أن يكون أكثر اللحظات حميمية - بوجود سد لا تعرف كنهه، يوقف التواصل الحقيقى بينهما، وتصاب المشاعر بالفتور. حدث أن واجهت «ثروت» محنة خطيرة فى عمله بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، أدركت زوجته بحبها وذكائها أنه قلق ومتوتر، لكنه أبدا ما تفوه لها بكلمة شكوى واحدة، وهى تشعر به مستيقظا فى فراشه طوال الليل. وإذا ما أبدت إليه أى إشارة تعاطف أو مواساة، إذا به كالقنفذ تخرج كل أشواكه فجأة حتى يهرب من لمسة من يدها، أو حضن تريد به أن تحتويه. كان يتظاهر طوال الوقت بأنه على ما يرام، وأن أى شيء يحدث لا يهز له شعرة واحدة. التظاهر بالاستغناء/u/ حالة «ثروت» معروفة فى علم النفس، وهى شخصيات تعانى من «رفض الاعتماد على الغير» بصورة مرضية، وذلك نتاج صدمات نفسية عنيفة حدثت فى الطفولة المبكرة، ما بين الميلاد والسنوات الثلاث الأولى، وسببت لهم جروحا فى الروح، لأنهم حُرموا من الإحساس بارتباط آمن مع الأم. وهؤلاء يكبرون وهم لا يعرفون كيف يقيمون علاقة ارتباط آمنة مع كبار مثلهم. أيضا حين يتعرضون فى العام الثانى والثالث لمزيد من الجروح لأنهم حرموا من دعم عاطفى من الأم والاب أو من يرعونهم من الكبار (جدة أو مربية)، فإنهم يضعون ستائر كثيفة على الجانب المجروح فيهم، فى علاقاتهم الإنسانية وهم كبار كنوع من الحماية لأنفسهم من التعرض لمزيد من الجروح. ويقول العلماء إنه من المستحيل لمن لم تندمل جروحهم أن يكونوا تلقائيين ومفتوحين بما يكفى لإقامة علاقات إنسانية حميمة فعلا، بل يسمونهم «الهاربين من الحميمية». وبينما يحتاج هؤلاء الأشخاص فى أعماق أنفسهم للمودة والألفة الحميمة مع من يحبونهم إلا أن ما تحتفظ به ذاكرة الجسد من صدمات للروح فى سنوات عمرهم الأولى تؤدى بهم إلى حال من الحذر الشديد، والعمل على السيطرة على مشاعرهم بقوة فى المواقف الحميمة. ف»ثروت» كان يجيد إقامة علاقات مع البعيدين لأنها لا تصل إلى المنطقة المجروحة التى يخفيها فى العلاقات القريبة. الكمبيوتر البشرى/u/ ويشبه العلماء هذا الحال بأنه يشبه برنامج كمبيوتر يختزن الصدمات فى اللاوعى عند من هم مثل «ثروت». الفرق الوحيد هو أنك – مع برنامج الكمبيوتر - تختار ما تريد تفعيله، وتتحكم فيما تحتاج إلى إخراجه. أما فى حالة «برنامجك النفسى الداخلى»، فالمشاعر التى تنتابك فى موقف ما وأفكارك، وتصرفاتك، تتحدد وفقا لمخزون من المفاهيم المشوهة التى تبرمجت على أن تظهر بمجرد أن تصل إليها إشارات إنذار من الحواس، تنبهها بأنها تتعرض فى العلاقة الحالية لما يشبه ما حدث فى الصدمات الأولى. كل هذا بلا وعى منك ولا تحكم. ويقول علم النفس إنه لا يمكن إقامة علاقة إنسانية سوية وناجحة، والحفاظ عليها وصيانتها، إلا حين يغير مثل هؤلاء الأشخاص «البرنامج الداخلى» الراسخ فيهم، وأول خطوة فى تغيير البرنامج هى اكتشاف محتوياته وثانى خطوة هى استعمال الأدوات لتغيير محتواه فالمحتويات القديمة هى أكبر عائق فى طريق إقامة علاقات سوية، مع أنفسنا ومع الآخرين. ومن هذه المحتويات وأهمها هى الصدمات الناتجة عن حرماننا من: 1- بناء رباط قوى وصحى بالأم يعطينا الإحساس بالأمان، 2- الدعم العاطفى والروحى الذى نحتاجه لنتعرف على أنفسنا الحقيقية، ونُعطى الفرصة لتطويرها، والتعبير عنها بحرية وأمان أيضا. فحين نُحرم من هذين العنصرين (اكتساب الأمان والدعم العاطفى والروحى)، فإن برنامجنا الداخلى يتشكل بصورة غير سوية، تجعلنا نظل العمر كله، وكلما أقمنا علاقة بأى أحد، نطالبه - دون وعى طبعا - بتحقيق ما يفترض أن نكون قد استوفيناه من والدينا، وإذا لم يحقق لنا ذلك نضع عليه اللوم فى فشل العلاقة. كما يحتوى برنامجنا الداخلى على صور زائفة لأنفسنا وللعالم، فنعتقد مثلا «أننا لا نستحق الحب»، وتترسخ عقيدتنا بأننا فى عالم ليس به أمان، فيقول برنامجنا الداخلى «يجب أن أحمى نفسى حتى لا يجرحنى الآخرون». وفى كلا الحالين يتوقف تدفق الحب والمودة، فنشعر بالوحدة والاغتراب واليأس، والحرمان من الحب الذى نتحرق شوقا له. برنامج صحى /u/ أول خطوة لتصميم برنامج جديد هو أن يتواجد الوعى لدى كل طرف بالمشكلة التى يعانى هو منها، ويكف عن تحميل الطرف الآخر مسئولية عدم استواء العلاقة. فإذا تعرّف كل شخص بينه وبين نفسه على محتويات «برنامجه الداخلي» وأقر بأنها تحتاج للتغيير، يكون كلاهما بذلك قد أدرك موقع السد الذى يوقف سريان شلال الحب. أما إزاحة هذا السد فتكون بالعمل على أن تكون العلاقة نفسها وسيلة لشفاء الطرفين، وذلك بإعادة تعريف معنى «العلاقة الحميمة» لتشمل التعامل مع الصراعات الموجودة، والاتساع والأمان لأن يقول كل منهما بصدق عما يطوق إليه، وعما يحب أن يقدمه للآخر. إن مجرد الحديث بصدق هو أول طريق الشفاء. طبعا ليس الأمر بالسهولة التى يقال بها، لكن توافر الإرادة من الطرفين يعتبر وسيلة فعالة لبناء «علاقة حقيقية»، والتخلص من تبادل الجراح والصراع. فالمنطقة العميقة التى حدثت فيها الصدمة هى نفسها التى سيتدفق منها الدواء. والتخلص من الخوف من كشف تلك المنطقة، هو نصر كبير للعلاقة. أما نصيحتى الشخصية للطرف الذى صمم أن يأخذ خطوة نحو الشفاء، وإقامة علاقة صحية مع نفسه، والطرف الآخر، فهى أنه حتى إذا لم يكن الطرف الآخر على نفس درجة الاستعداد لخوض رحلة الشفاء، فعليه أن يبدأ هو أو هى خطواته ولا يتوانى، وهذا كفيل بأن يعطيه أو يعطيها قدرا كبيرا من الراحة، وسيؤثر إيجابيا فى العلاقة، لأنه وقد تحرر من المخزون العاطفى المشوه، لن يدخل فى صراعات، ولا اتهامات مع الطرف الآخر، وبالتالى فلن يغذى برنامجه غير السوى، وتلك مساعدة له أو لها غير مباشرة. السؤال هو: ما الذى يؤدى إلى حرمان الكثيرين منا من الأمان منذ الميلاد وأثناء الطفولة؟ هل هناك أخطاء محددة يقع فيها الوالدان مثلا؟ وهل هناك من المعرفة ما يساعدهما على تجنبها لإعطاء الوليد احتياجاته الأساسية من الأمان والدعم النفسى الذى يؤثر فى حياته كلها؟ وهل هناك وسيلة يمكن أن يعوض بها الإنسان لنفسه هذه المشاعر الأساسية إن لم يتلقاها من أبويه؟ هذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله. تدريب: تأمل فى نسبة الحميمية الحقيقية فى علاقاتك القريبة، ودور البرنامج الداخلى عندك فى تحقيق القرب المطلوب أو إعاقته. أى تغيير تحتاج إليه؟