قبل عامين تقريبا أقدمت روسيا على خطوة أحدثت أصداء واسعة فى كافة دول العالم، وانعكست على علاقات موسكو مع الغرب، ودفعت العالم كله إلى النظر إلى روسيا من منظور جديد. فقد اعترفت موسكو يوم 26 أغسطس 2008 باستقلال كل من جمهوريتى أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وأعلن الرئيس الروسى ديمترى ميدفيديف عن قراره بعد مرور أسبوعين فقط على انتهاء المعارك فى أوسيتيا الجنوبية ودحر العدوان الذى شنَّه الرئيس الجورجى، ميخائيل ساكاشفيلى على الأوسيت الجنوبيين الذين أعلنوا انفصالهم عن جورجيا.وتقع أوسيتيا الجنوبية وسط جورجيا من ناحية الشمال، وحدودها محاذية لجمهورية أوسيتيا الشمالية. وكانت روسيا قد استولت على أوسيتيا كاملة عام 1878 وقسمتها بعد الثورة البلشفية إلى كيانين: ألحق الشمالى بالاتحاد الروسى والجنوبى بجورجيا. ومن الخطأ القول إن الأحداث المأساوية التى شهدتها منطقة القوقاز فى أغسطس 2008 كانت بمثابة مفاجأة للسلطات فى أوسيتيا الجنوبية. فعلى امتداد 18 عاما حاول نظام الحكم فى جورجيا من خلال إدوارد شيفرنادزه ومن بعده ميخائيل ساكاشفيلى إخضاع أوسيتيا الجنوبية ودفعها إلى التخلى عن فكرة الاستقلال التام. كما أن الثورة الوردية فى جورجيا عام 2005 وهى الثورة التى أتت بميخائيل ساكا شفيلى إلى السلطة، حاولت فقط تدعيم مطالب العاصمة الجورجية تبليسى تجاه أوسيتيا الجنوبية. فالزعيم الجورجى الجديد لم يحاول إخفاء طموحاته وجعل من عودة الأراضى المفقودة هدفا رئيسيا لنشاطاته الرئاسية مما دفعه إلى التحالف مع الناتو «حلف شمال الأطلنطى» لتحقيق هذه الغاية. مستشارون وخبراء وفى أغسطس 2008 كانت جورجيا جاهزة بقوات عسكرية ضخمة مما شجعها على خوض غمار الخيار العسكرى. فقد تسلَّمت شحنات أسلحة ومعدات عسكرية ضخمة ليس فقط من الولاياتالمتحدة ولكن أيضا من أوكرانيا ودول البلطيق وبولندا وجمهورية التشيك وبلغاريا وسلوفاكيا وألمانيا وتركيا وإسرائيل ودول أخرى كثيرة. كما وصلها مستشارون وخبراء عسكريون من الولاياتالمتحدة وأوكرانيا وإسرائيل وتركيا ولاتفيا وبولندا، حيث قضوا فترات زمنية طويلة بين صفوف قوات الجيش الجورجى. وكانت تبليسى على ثقة من أن موسكو لن تدخل فى مواجهة مفتوحة معها، وأن أقصى ما يمكنها فعله هو أن تناشد الأممالمتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبى، وباقى المنظمات الدولية التدخل لمنع ما أعلنه الرئيس الجورجى بوضوح بخصوص نيته تجاه أوسيتيا الجنوبية. وكانت جورجيا أيضا تضع فى حساباتها عند قيامها بالهجوم على أوسيتيا الجنوبية أن ديمترى ميدفيديف الذى تولى منصب الرئاسة فى روسيا حديثا «فى 7 مايو 2008» أخذ يسعى إلى تحسين علاقات روسيا مع الغرب، فضلا عن أن رئيس الوزراء الروسى، فلاديمير بوتين كان مشغولا بحضور افتتاح دورة الألعاب الأولمبية فى بكين. ولذلك ووفقا لما خطط له ساكا شفيلى فإن العملية يجب أن تكون خاطفة وسريعة ولا تستغرق وقتا طويلا. فبنى الجورجيون استراتيجيتهم على عنصر المفاجأة. فماذا كانت النتائج السياسية والعسكرية لهذه المغامرة؟ وما الذى حققته الحرب الجورجية على أوسيتيا الجنوبية؟ لقد حرصت السلطات هناك على إخفاء الخسائر البشرية فى قواتها العسكرية عن الشعب إلى أن بدأت تتسرب المعلومات إلى الصحافة مؤكدة فقد الجيش الجورجى لما يقرب من ثلاثة إلى خمسة آلاف جندى وضابط، وأن غالبية القوات فرَّت عائدة إلى العاصمة وما حولها. كما تم تدمير كل المركبات العسكرية الجورجية تقريبا بالإضافة إلى المعدات الهندسية البحرية والجوية، وكانت كل المطارات وباقى التسهيلات العسكرية خارج الخدمة طوال أيام الحرب الخمسة، وفقد الجيش كل أسلحته الخفيفة تقريبا وكل الذخيرة والمعدات العسكرية التى كانت ضمن المخزون الاحتياطى للترسانة العسكرية. واضطرت الولاياتالمتحدة والناتو إلى إعادة القدرة القتالية للجيش الجورجى من نقطة الصفر تقريبا، وإلى تركيز اهتمام المستشارين والخبراء ليس فقط على التدريبات الهجومية ولكن أيضا على التدريبات الدفاعية. أما الخسارة السياسية لنظام ساكاشفيلى فهى تفوق الخسارة العسكرية بكثير، فقد فقدت جورجيا بصورة يتعذر تحديدها القدرة على استعادة العلاقات مع روسيا، وذلك فى مناطق يسكنها أكثر من 5 ملايين مواطن من أصول جورجية. كما علَّقت الدولتان العلاقات الدبلوماسية المباشرة فيما بينهما. ولا توجد بينهما وسائل مواصلات ولا اتصال ولا علاقات تجارية واقتصادية بالمرة. وهذه العواقب السيئة كان لها أثرها على الاقتصاد الجورجى الذى يعتمد فى مصادر دخله بصورة أساسية على مستوى العلاقة مع الجارة روسيا. والآن نجد أن جورجيا تعيش أساسا على المساعدات الاقتصادية والمالية التى تمنحها الولاياتالمتحدة ودولة غرب أوروبا. كما أن حرب أغسطس 2008 كان لها أثرها أيضا على العلاقة مع الولاياتالمتحدة. فتغير الرئيس فى البيت الأبيض مع رحيل بوش الابن ومجىء أوباما، دفع الولاياتالمتحدة إلى إعادة التفكير فيمن يقع عليه اللوم فى تلك الأحداث. كما أن الرئيس الأمريكى الجديد أخذ يعيد النظر فى علاقة واشنطن مع تبليسى، التى لم تعد ضمن أولوياته. ورغم أن الولايات أعلنت أنها تفضل وحدة وسلامة الأراضى الجورجية إلا أنها قامت بإبلاغ تبليسى بصورة واضحة عدم قبولها لأية استفزازات تقوم بها فى منطقة القوقاز كالتى قامت بها فى أغسطس 2008، وضرورة استخدام الوسائل السلمية لتحقيق أهدافها، وعدم تحدى الروس والاستفادة من أية فرصة لإعادة العلاقات مع موسكو. وفى الوقت الحالى لم يعد لجورجيا أيضا شريك عسكرى وسياسى قوى مثل أوكرانيا. والأكثر من هذا أن العاصمة الأوكرانية كييف مستعدة لإعادة علاقات التعاون التام والشامل مع موسكو. ببطء لكن بثبات لقد فقدت أوسيتيا الجنوبية فى تلك الحرب 1960 من مواطنيها وما يقرب من 70% من المبانى السكنية والإدارية التى تم تدميرها. بالإضافة إلى تخريب وهدم محطات المياه والكهرباء وعلى امتداد 18 عاما من سياسة الفصل العنصرى الجورجى فى أوسيتيا الجنوبية، فإن ما يقرب من مائة ألف مواطن تحولوا إلى لاجئين، وما يقرب من ثمانية آلاف تم قتلهم، وأكثر من 117 قرية فى أوسيتيا الجنوبية تم إحراقها. والآن فإن جمهورية أوسيتيا الجنوبية تحصل ببطء ولكن بثبات على الاعتراف الدولى، ففى أعقاب روسيا اعترفت كل من نيكاراجوا وفنزويلا بحق الأوسيت الجنوبيين فى الاستقلال. وخلال زيارة الرئيس الأوسيتى الجنوبى، إدوارد كوكويتى لهاتين الدولتين فى يوليو الماضى تم توقيع الاتفاقيات الخاصة بإقامة العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفارات بالإضافة إلى بروتوكولات التعاون التجارى والاقتصادى. ومازالت جمهورية أوسيتيا الجنوبية تضمد جراحها وتتعافى رويدا رويدا وبالتدريج بدأ اللاجئون العودة إلى وطنهم ليقوموا ببناء المساكن وتعبيد الطرق والحصول على التسهيلات الاجتماعية التى يقدمها بلدهم.