لا يزال الباحثون في تاريخ الأدب العربي يسكنهم شغف كبير بالأديبة التي لم يعرفها الكثيرون في العالم العربي رغم شهرتها في الغرب، وهي قوت القلوب الدمرداشية، فهذه الكاتبة المصرية التي ولدت في غرف الحريم المسكونة بالأسرار في مصر نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت أيقونة الأدب الشرقي لدى مثقفي وأدباء الغرب، والتي كشفت أسرار الحريم بلا ابتذال لتقول إن نساء مصر لسن إماء بل حرائر لهن عقول ومشاعر مثل الرجال. هي قوت القلوب التي قال عن بطلاتها الأديب "أندريه موروا" (قد قمن بتعرفي الكثير عن مصر، أكثر مما أعرفه عن إنجلترا من نساء "كاترين مانسفيلد" أو ما تعلمته عن نساء فرنسا كما كتبت "كوليت") ولدت "قوت القلوب" في أواخر عام 1892، وهي تنتمي إلى أسرة تنحدر من سلالة أحد أمراء المماليك الذين قدموا إلى مصر من القوقاز هذا الاسم مع العثمانيين، وقد حملت هذه الأسرة اسم "تيمورتاش"، وبمرور الوقت تحول إلى الدمرداشية، وقد عرفت هذه الأسرة بالتصوف، وأصبحت هناك طريقة صوفية تعرف بالطريقة الدمرداشية يقول عنها ناصر الدين النشاشيبي في كتابه نساء من الشرق الأوسط: "إنها مجرد واحدة من بين أكثر من ستين طريقة دينية وصوفية أخرى في مصر، كما استمرت الطريقة الدمرداشية كغيرها من الطرق الصوفية تحاول أن تجمع في مسلكها وتصرفات أنصارها وخطوات المسؤولين فيها شيئا من مظاهر الاحتفالات الدينية الصاخبة، التي يسيطر عليها التطرف في الأداء، والصخب في الصوت والضجيج في الابتهالات، مع الحرص على المساهمة في خدمة المجتمع، ورعاية الفقير وتعليم الأولاد. صالون أدبي في ظل مناخ صوفي عاشت قوت القلوب الدمرداشية، وكانت الابنة الوحيدة للشيخ عبدالرحمن الدمرداش الذي كان يعتبر نفسه شيخ الطريقة الدمرداشية في مصر، ونشأت قوت القلوب في جو مليء بالرفاهية، وبعيد عن الزهد والتقشف، وربما كانت هذه الحياة هي التي أحدثت حالة التمرد، والتوق للانفعالات من حالة الأسر العائلي، فرغم أنها قد تزوجت من رجل مصري يقل عنها وجاهة وثراء، ورغم احتفاظها بحق العصمة في يدها، إلا أنها قد سبحت ضد تيار التقاليد الأسرية، فكانت من أوائل سيدات المجتمع المصري اللائي اهتممن بالثقافة والأدب بوجه خاص، وفتحت بيتها لكل أبناء المجتمع البارزين من الرجال والنساء، لتكون صالونا أدبيا عُرف باسمها، ولما مات أبوها ترك لها ميراثا فخما، ومستشفى خيري خاصا يحمل اسمه، ولا يزال موجوداً حتى الآن. في كتابها "ليل المصير" تحدثت قوت القلوب عن نفسها قائلة: "لقد ولدت تحت أقدام مئذنة، والتي كانت أول شيء رأيته فأحسست بها كأنها إصبع يشير إلى السماء، أما أول شيء سمعته فهو اسم الله يتردد خمس مرات يوميا بصوت المؤذن فينشي روحي". دخلت قوت القلوب عالم الإبداع وهي في الخامسة والأربعين من عمرها، حيث الظروف الاجتماعية كانت مهيأة لدخول المرأة المصرية إلى معترك الحياة العملية في كافة المجالات، ونشرت روايتها الأولى عام 1937 في "دار المعارف" باللغة الفرنسية، تحت عنوان "مصادفة الفكر"، وفي نفس العام نشرت روايتها "حريم في دار جاليمار". تجاهل وعلى الرغم من انتقال قوت القلوب للغرب، فقد كانت امرأة مصرية تشربت العادات والتقاليد، ووعت أحوال وهموم بنات جنسها المصريات، فقد غذت إبداعها بدمها وحياتها وتجاربها. كتب عنها مشاهير الكتاب في العالم ولم تنصفها إلا كتابات عربية قليلة، لذلك فجوهر تجربتها الإبداعية باق، رغم التجاهل أو التناسي لهذا الإبداع من قبل النقاد العرب، فحتى الآن لم تترجم أعمالها الروائية والقصصية إلى اللغة العربية، وقد مرت السنون الطويلة دون أن يعرف القارئ المصري أو العربي شيئا عن قوت القلوب، رغم ارتباط أعمالها بالأجواء الشرقية بصفة عامة، والمصرية بصفة خاصة، ربما تكون المرة الوحيدة التي عرف فيها القارئ المصري شيئا عن قوت القلوب الروائية في عدد شهر ديسمبر عام 1949 من مجلة الهلال، حيث نشر ملخص لروايتها "زنوبة". وفي حدود ضيقة من خلال الدراسة التي نشرتها المكتبة الفرنسية المصرية بالقاهرة عام 1985، تحت عنوان قوت القلوب أو رؤية مصر الأمس، إعداد د. سونيا إبراهيم عقداوي، وقد تناولت فيها أعمال قوت القلوب الروائية بالتحليل والدراسة. يقول موروا: إن قوت القلوب قد ربت أبناءها تربية دينية على حسب الشريعة الإسلامية، كما تلقوا أيضا أسس العلوم والفنون الغربية، وكان بيتها مزاراً لكل كتاب العالم الذين يأتون إلى القاهرة أمثال فرانسوا مورياك، وأناتول فرانس". لقد تنوع عطاء الكاتبة بين الرواية والقصة القصيرة، ومن رواياتها زنوبة (جاليمار 1940)، والخزانة الهندية (جاليمار 1940)، والذي كتب مقدمتها الروائي المعروف جان كوكتو، ثم "ليل المصير" عام 1954، ورمزة (1958)، وهو نفس العام الذي كفت فيه عن الكتابة، أما قصصها القصيرة فهناك ثلاث هي "حكايات الحب والموت" عام 1940، ويوميات تحت عنوان "ليالي رمضان"، بالإضافة إلى مجموعة من القصص التي لم تنشر من قبل. قضايا المرأة في دراسة د. سونيا إبراهيم، ترى أن قوت القلوب لم تكن كاتبة واقعية، ولكنها اختارت من الواقع عناصره الرئيسية، وكان أبطال رواياتها من نساء المجتمع البرجوازي. في رواياتها (الخزانة الهندية) نلمح نموذج المرأة الباحثة عن حريتها وتحقيق وجودها الإنساني من خلال شخصية عائشة الفتاة الريفية البسيطة التي كان من حسن حظها أن تربت مع ابنة رضوان بك في القاهرة، ولذا فهي لا تتصرف كخادمة، ولكن كابنة لرضوان، وقد استطاعت أن تجذب انتباه المجتمع من حولها، فهي تهوى الموسيقى، وتجيد العزف على العود، فأصبحت مطربة مشهورة، لقد وصفت قوت القلوب حالة العبودية والخضوع التي عاشتها بعض النساء المتزوجات، وجسدت ذلك في قصصها ورواياتها، لكنها في رواية "رمزة" جسدت المرأة التي رفضت أن تكون حيواناً، ولكنها كائن يفكر ويحس، وسلوك رمزة يثير قلق الأم الخاضعة للتقاليد والأعراف السائدة، والتي أجهضت حق المرأة في المشاركة الفعالة في مجتمعها. لقد تمردت رمزة، ورفضت أن تكون سلعة، وقررت أن تقوم باختيار زوجها بنفسها حيث قالت: "عندما تودين حلية فإنك تذهبين إلى الجواهرجي، وعندما تودين مسكناً تسألين سمسارا، وإذا رغبت في زوج، فيجب أن تكوني قادرة وماهرة في الاختيار". ولم تعكس قوت القلوب الواقع كما هو، بل أعادت صياغته من جديد في قالب فني فريد، فاتسمت لغتها بالشفافية، والقدرة على التقاط الحدث الواقعي، وطرح العديد من التساؤلات والهموم بحسها الأنثوي المليء بالرغبات المكبوتة التي تبحث عن مخرج لها حتى لا تستحيل إلى سلوك مناف، لذلك تسلحت قوت القلوب بإيمانها، وما تربت عليه من نشأة صوفية ومن ثقافتها أيضاً التي وعت من خلالها أسرار الكتابة، وكتبت حكاياتها عن الحب والموت والنساء والحرية.