محي الدين ابن عربي، قمة شامخة بأسرارها وعلومها وإلهامها، قمة من أعظم ما وصل إليه الخيال الْمُحَلِّق في ميادين العلم والفلسفة والدين، قد أحاط القمة صاحبها بالصعاب والمشاقِّ، حتى غدا الوصول إليها ضربًا من الكفاح الذي لا ينتهي، وغدا المرتقَى قاسيًا مرهقًا حتى لجبابرة الأجنحة. يقدم الكاتب طه عبدالباقي سرور في كتابه ”محي الدين ابن عربي” دراسة شاملة حول شخصية ابن عربي ونشأته وتصوفه وظروف عصره، وقد صدر الكتاب في طبعته الأولى عام 1955 وأعادت ”وكالة الصحافة العربية – ناشرون” نشره في طبعة جديدة مدققة. لقد درج التصوف مع الفكر الإسلامي منذ يومه الأول، يصعد بصعوده ويهبط بهبوطه؛ كما تدرجت المعارف الصوفية تدرجًا طبيعيًّا، من الزهد والعزلة والذكر والتصفية القلبية، وما يلهمه صفاء القلب من فهمٍ في كتاب الله، وإدراكٍ لأسرار كلام رسوله، كما نشاهد في صوفية القرن الأول إلى سمات امتاز بها القرن الثاني؛ إذ انتقل التصوف إلى آفاق أرحب وأشمل، إلى معارف الروح وإلهاماتها، ومعاني المحبة وأقباسها، وحنين القلوب وأشواقها، وتعددتْ مدارس التصوف، وتعددت ألوانه وطرائقه ومذاهبه، تعددًا ظهرت آثاره واضحة مشرقة في صوفية القرن الثالث والقرون التالية، فمدرسة سعيد بن المسيب، وهي مدرسة التصوف الممزوج بالفقه والتوحيد، بلغتْ ذروتها في الأعلام الغزالي والرفاعي والجيلاني. أما مدرسة إبراهيم بن أدهم، وهي مدرسة التصوف الذي سِمَتُه المحبة المشبوبة، فأنجبتْ ذا النون المصري، أكبر المتحدثين عن النفس ومقاماتها، والبسطامي العلَم الفرد في توضيح حالات الفناء، وهي أسمى مراتب المريدين وأعلى قمة المحبين؛ حيث تنكشف في ساحاتها الحقائق الإلهية المكنونة على غير أهلها، وحيث تسمو الروح في رحابها إلى مرتبة الفيض والإشراق أسرار عن حياة ابن عربي ثم يأتي دَوْر الكمال الصوفي، ممثلًا في شيخ الطريقة الجُنَيْد، ودَوْر الإبداع الفني في المحب الفاني الحَلَّاج، الذي شرب من كأس الحب، حتى انتشى ثم غرق؛ فكان فتنة للناس، كما يأتي دور الكمال العلمي متجليًا في العبقري شهاب الدين السهروردي؛ رئيس الإشراقيين، وابن سبعين الصيقلي إمام الْمُفَسِّرين وعمدة الشارحين. فإذا نمتْ للتصوف في القرن الخامس الهجري مدرسة جامعة، مُميَّزة بسِمَات وعلامات، لها عناصرها وعلومها، وأساتذتها ومريدوها، فإن التصوف شهد إماما جامعا هو محي الدين ابن عربي، الذي كان مقامه من التصوف كلمة الإمام صفي الدين «الجنيد يُربِّي المريدين، ومحي الدين يُربِّي العارفين»، وتربية العارفين –وهم مَنْ هُمْ– قمة في التصوف تفرَّد بها، فهو أولها وهو أيضًا ختامها. يقول مؤلف الكتاب جاء محي الدين في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية الأندلسية، عصرٍ مأهول بالعلماء، عامر الأفق بنجوم السماء، فلما أَلقَى من فيض ما تَلقَّى بيانَه وهداه، خشعت له القلوب، ودانت له العقول، ثم طَوَّف في رحاب العالم الإسلامي، كالغيث أينما حَلَّ هطل فأنبت وأحيا. وللبيئة الأندلسية التي وُجد فيها محي الدين تأثير حاسم في حياته، فبينما كان المشرق الإسلامي يموج بطوائف من الملل والنحل والمذاهب، وأمم من الخوارج والمرجئة، ومجادلين من الأشاعرة والماتردية والمعتزلة، وبينما كانت هذه الطوائف تتصارع وتُفْنِي حيويتها في التطاحن، كانت الأندلس تحت أجنحة الرحمة أمة واحدة متجانسة الفكر، موحَّدة المذهب، رضِيَّة الجدل والحوار، ولهذا لم يُفْنِ محي الدين حياته صراعًا وقتالًا، كما فعل الغزالي الذي سبقه بقليل في المشرق في حروبه ومجادلاته، مع الفلاسفة والفقهاء ورجال المذاهب. ولم تَلَظَّ حياتُه بأُوارٍ مستعر من الخصومات العنيفة، كما نشاهد في ابن تيمية في المشرق أيضًا بعده بقليل مع القرامطة والفلاسفة والصوفية وغيرهم، بل امتازتْ حياته بالهدوء والصفاء والتفرغ المطمئن للتعبُّد والتلقِّي. وثَمَّة صفةٌ أخرى واضحة في حياة محي الدين، فعلومُه علومُ كشف وفيض، وهو يقول في صراحة إنه لا يكتب عن رويَّة وفكر؛ وإنما عن نَفْثٍ في رُوعه، وأن تصانيفه من خزائن القرآن، وقد أُعطي مفاتيح الفهم فيها والإمداد منها. وإذا كان ابن عربي قد سَلِم من الجدل والخصومة في حياته، فقد انطلقتِ العواصف في أثره هادرة، فقد ترك في الدنيا دويًّا اختصمت فيه وتصارعت حوله العقول. فهو القطب الإمام، والعالِم الفرد الأوحد عند رجال التصوف، وهو الزنديق المتفلسف، الهاتف بالحلول ووحدة الوجود عند الماديين وبعض الفقهاء الجامدين، ولكن هؤلاء وهؤلاء –وإن تجادلوا وتصارعوا في عقيدته– لم يختصموا في علمه، ولم تجرؤ ألسنتُهم على الانتقاص منه. ونذكر أن من الموضوعات الهامة التي تناولها الكتاب علاوة على سيرة ابن عربي وتأثيره الجدال بين ابن رشد ومحي الدين، والعلم النظري واللَّدني، والمقامات والأحوال، كما تطرق الكتاب إلى المرأة في حياة محي الدين، وصِلَاته بالملوك، والنهج الصوفي، ليذهب إلى كشف علاقة محي الدين بالفِرَق الإسلامية وتفاصيل الحب الإلهي، وصولا إلى أثر محي الدين في النهضة الأوروبية.