استطاع الناقد المغربى الدكتور رشيد يحياوي أن يؤسس لاسمه كناقد من خلال اسهاماته المتعددة في مجال النقد التطبيقي منهجه في تبسيط المصطلح ؛ حتى لا يدخل في أزمة الفجوة بين كلام النقاد الاكاديمي والانفصال عن الواقع الابداعي المعاصر .. وفي كتابه الجديد "النص ولغزه" الذي صدر مؤخرا عن وكالة الصحافة العربية بالقاهرة ؛ يقول: في إلغازه يكون النص، لأن كل نص إبداعي واقعة تشابكت خيوطها، كلما أردنا الإمساك بخيط منها، وجدنا أنفسنا أمام دور أو أمام تسلسل إلى ما لا نهاية، فالخيط بحبل على ما قبله أو بعده، وكل الخيط يحيل على الخيوط، وأهم مقومات اللغز هي التحدي باختبار فطنة القارئ، والنص ليس من مقوماته التحدي فحسب، بل أيضًا التلاعب بفطنة القارئ، بأن يستدرجه لمصيدة الإقناع أو دغدغة أوتاره النفسية وتوليد معان متموجة، إنه يتلاعب بفطنة قارئه كلما جعله فريسة لتغيير آرائه. فما بين اطمئنان للإمساك بدلالة النص وإقرار بفشل إمساكها، تمضي لعبة النص. ويقسم المؤلف الكتاب إلى قسمين؛ الأول: خاصة بمسائل في المفاهيم، والآخر يتعلق بمسائل في قراءة النص. ويرى المؤلف أن الأنواعية الأدبية، أو نظرية الأنواع الأدبية، نظرية تدرس تكون الأنواع الأدبية وتسعى للإجابة عن الأسئلة المرتبطة بتجولاتها والعلاقات التي تربطها ببغضها في تعددها. ولهذا السبب كان موضوع نظرية الأنواع شائكًا، لأنه يفترض من المقارنة والاستعانة بمختلف المناهج، فعند النقاد العرب مثلاً يتضح مدى الألغاز الذي يتسم النوع الأدبي سواء من جهة المصطلح والمفهوم أو من جهة تحليل وتصنيف المنجزات النصية الإبداعية، وهكذا نلاحظ كيف يرادف اصطلاح "فن" عند محمد مندور، وعز الدين إسماعيل، اصطلاح "نوع أدبي"، وقد قام الدراسان تحت نفس العنوان "الأدب وفنونه"، بدراسة مفاهيم بعض الأنواع الأدبية.. فالأدب عند محمد مندور ينقسم إلى قطبين كبيرين؛ هما الشعري والنثري، وكلاهما ينقسم إلى أنواع.. فأنواع الشعرى أربعة هي: الغنائي والملحمي والدرامي والتعليمي، والمسرحي عنده يوجد بين هذين القطبين. أما عز الدين إسماعيل فهو أكثر ميلاً إلى مبدأ التصنيف، حيث يضع لذلك جداول كاملة بما تتفرع إليه الأنواع من أنواع أو فروع جديدة، وينقسم الشعر عنده إلى ثلاثة أقسام: قصصي، وغنائي، ومسرحي، يجمع بين الاثنين، ويعطي القصص: الملحمي، والقصصي الشعبي، ويعطي الغنائي: الأغنية والأود والمرئية والسوفيت.. والملحمي نفسه يعطي التاريخي والأدبي. ويوجد في الشعر، نوع يراه عز الدين إسماعيل جديدًا هو "القصة الطويلة". قضية المصطلح ويقول المؤلف: إن قضية المصطلح قضية لغوية في المقام الأول والعلم الجدير بدراستها هو علم المصطلح، لأنه العلم الكفيل بتوليد واشتقاق المصطلحات وضبطها. إن المصطلح ليس هو الكلمة أو الدليل اللغوي مجردًا. فهو لفظ يشحن شحنًا خاصًا، بحيث يحيل على مفهوم فكرى واسع أو مفاهيم. فإذا قلنا "وتدًا" فقد نقصد صورة ذهنية عن مرجع مادي يدخل كعنصر، مثبت لبناء الخيمة. ولكن كلمة "وتد" لها أيضًا مفهوم آخر، خاص بالعروض، إن الإجماع هو الذي يعطى للمصطلح فعاليته، فمصطلح "وتد" ذو المعنى القار يفيد في ضبط جانب تشكيلي عروض وعنصر قرابة بين الدارسين للعروض، وقد تبدو فداحة الخلط حين قام أحد باستعمال كلمة أخرى ذات اشتقاق جديدة؛ للدلالة على مفهوم "الوتد"، وهذا ما قصدناه بالفوضى المصطلحية، والتي إن كانت تغني المصطلح، فهي تشوش عملية التواصل. ويضيف: إن الفوضى المصطلحية وإن كانت تثري اللغة النقدية وتخصبها، فهي لا تمنع الغموض والتضارب في الرأي، بل تكون السبب في ذلك. فلماذا تضاف مصطلحات جديدة غريبة كترجمة لمصطلحات متعارف على مقابل لها؟ لماذا ترجمة؟ "فلماذا تضاف مصطلحات جديدة غريبة كترجمة لمصطلحات متعارف على مقابل لها؟ لماذا ترجمة "MYTHE" "ميت" بدل أسطورة؟ ثم أى مصطلح سيختاره القارئ العربى متقابل ل"FORMALISTE" هل "شكلاني" أم "مشكلي" أو أخيرًا "شكلاوى"، ول"POEHAUE" هل "شعرية" أم "شاعرية" أم "إنشائية"؟ هذه مجرد أمثلة. ويتحدث د. رشيد يحياوي عن كتاب نذير جعفر "رواية القارئ"، يوحى عنوان الكتاب بأن فصوله ستخصص لبناء محافل نظرية حول موضوع مقترح هو "رواية القارئ"، أى عرض مفاهيم ومقولات ترصد حدود وتفصلات نوع روائي يجسد العنوان السالف. ويتبين لنا في مقدمة الكتاب أن الرواية المذكورة في عنوانه ليست رواية واحدة، بل روايات متعددة لروائيين مختلفي الأقطار والمنازع التخيلية، هم: "نجيب محفوظ" و"هاني الراهب" و"ليد إخلاص" و"حيدر حيدر" و"عبد القادر عقيل" و"عبد الإله عبد القادر".غير أن هذه الروايات منسوبة لقارئ واحد، تم تقديمه بصيغة التعريف لا التنكير، وكأن القارئ معروف عند المتلقي محدود الملامح. ويذكر المؤلف: أن نذير جعفر يستمد في قراءته ركائز من السرديات البنيوية، خاصة الفرنسية منها، كما طورها "جينيت وتودوروف"، حتى إن بعض فصول الكتاب ينقسم إلى محاور يختص كل واحد منها بظاهرة من الظواهر الروائية، كما قاربتها السرديات المذكورة. غير أن اهتمام المؤلف بالبنية السردية والمناصات الفضائية، لم ينسه البنية اللغوية للأثر الروائي، إذا استناد في ذلك إلى حد بعيد بالمنهج الباختيني، لكنه في الوقت ذاته، توقف عدة مرات عند المظهر الروائي من بعده اللغوي الشكلاني لدرجة استعانته بأسلوبية الانحراف أثناء رصده لبعض الظواهر الأسلوبية في رواية إسماعيل فهد إسماعيل.. ومن المعروف أن المظهر الأسلوبي في الرواية العربية مازال يفتقر للبحث والتلقي النقدي في فقدنا المعاصر. والأعمال المنشورة في اللغة العربية حول هذا الموضوع تعد على رؤوس الأصابع، جلها ترجمات تناولت الأسلوب والصور البلاغية في الرواية. وانتبناه نذير جعفر لذلك في جل قراءته يعد أمرًا مطلوبًا ومحمودًا. نقد تطبيقي وفي القسم الثانى من الكتاب، يشير المؤلف إلى ديوان.. "وعادت الأشعار" للشاعر على السبتى، إنه ديوان يلتقط محطات لرحلة الواقع والذات والكتابة، ومحطات تتحول أحيانًا إلى ضرب من قصائد اليوميات الشعرية المنصرفة لاقتناص لحظات المعيش في ظرفية مكانه وزمانه. "الأشعار لا الشعر"، هذا هو الإبدال الصرفي الذي اختاره الشاعر للعنوان، فالأشعار تكثير صرفي للشعر، الدال في ذاته على الكثرة، التعريف في كلمة "الأشعار" مقوم خطابى له مقاصد تداولية، منها احتمال كون الشاعر أراد أن يقول لملتقيه: "الأشعار التي تمثلتها عني وعرفتها، هاهى تعود"، أو احتمال قوله: "الأشعار التي هي نموذجك للشعر وقرأتها في شعرى وفي شعر غيرى ها أنت تواجه أمثلة لها هنا".. الأشعار في عنوان الديوان هي إذن الأشعار في مطلقها التعريف، الذي يفترض فيه أنه عقد لقاء بين الشاعر ومتلقيه، إنها الأشعار المقصودة بالتعريف، لا الأشعار المعمية بالنكرة. لقد فضل علي السبتى تقديم ديوانه، بتقديم شعري من أربعة أبيات يعبر فيها عن إحساسه بالدافع الذي جدد في نفسيته الرغبة في الرجوع إلى معانقة كتابة الشعر.يقول الشاعر في هذا التقديم الذي سنرى له أيضًا أصدار في قصائد أخرى: حمامة تسللت من خلال الجدار حطت بجانبي تبحث عن قرار فحركت دمي وأحيت الأفكار فعدت للدنيا وعادت الأشعار ويقول المؤلف: يمثل الوطن عند كل شاعر صورة محفورة في الخيال ترعة بكينونتها، إنها ترافق الشاعر أين حل وارتحل ومنهما نأى. في هذا المنحنى يعبر علي السبتي بصيغ مباشرة عن تعلقه بوطنه وحبه له كقوله في قصيدة "من ليالى تشرين"، "لا أمن إلا في الوطن"، أو قوله في قصيدة: "أنا لى زماني": أنا لى زماني/ وعشقى لي والوطن. وقد ربط الشاعر ربطًا ملحوظًا بين دفاعه عن قدسية الوطن وبين آثار الغزو العراقى لبلده، بل لقد خص قصيدته "ضاع كل الكلام هدر"، بهذا الموضوع بالذات ذاكرًا اسمى الكويت وبغداد، مقارنًا في بغداد خاصة بين ماضيها وحاضرها من زاوية حميمية العلاقة أو اغتصابها. كيف يمكن للتاريخ أن يكتب بمتخيل المرأة؟ يقول المؤلف: هذا ما حاولت رواية "جارات أبي موسى" أن تقوم به، ومنذ ظهورها في صيف 1997، تركت هذه الرواية أصداء مختلفة في المشهد الثقافي المغربى. ولعل أول ما يميز هذه الرواية، هو اشتغالها، خلافًا للروايات السائدة بالتاريخ، فأحداثها تقوم من خلال استعادة زمن يرتد إلى العصر الإسلامي الوسيط، كما أن لغتها وحبكتها السردية، تعرضان بصيغ تستثمر ذخيرة الحكى القديم، لكنها من خلال ذلك كله، تخلق أسئلة صالحة للزمن الراهن أيضًا؟ خاصة منها سؤال الكتابة نفسه بوصفه سؤالاً يبتغي خلق متعة في القراءة وإدهاش المتلقى. ويضيف المؤلف: إذا كان بالإمكان أن تضيف هذه الرواية ضمن نوع "الرواية التاريخية"، فإن أول مفارقة تاريخية في هذه الرواية، هي أن التاريخ فيها لا يصنعه الرجل، بل تصنعه المرأة، فالمرأة هنا هى قطب الرواية وبؤرة أحداثها وشخصياتها. وفي ذلك مخالفة لما دون رسميًا عن التاريخ العربى، حيث يتصدر الرجال القائمين بالتحولات الكبرى، وهذا لا يعني أن الرواية لا توظف الشخصيات الرجالية، بل توظفها وتنسب لها أفعالاً أساسية في المجرى السردي للأحداث، بل إن المرأة تقدم في الرواية في صورة سلبية، أي خاضعة لسلطة الرجل، غير أنه في مقابل هذه الصورة، نجد الكاتب يعطي للمرأة حضورًا بارزًا في نسيج الرواية على مستوى خطابها السردي، حين تتقهقر سلطة الرجل على المرأة أمام هيمنة سلطة المرأة في خطاب الرواية التخيلى، ويمكن أن نسجل ذلك بدءًا بعنوان الرواية الذي هو "جارات أبى موسى"، حيث تتصدر المرأة ممثلة في الجارات، العنوان لتشد القارئ نحو الشخصيات النسائية بالتحديد، أما شخصية "أبي موسى" وهو زاهد درويش منبوذ من المجتمع، فلا تتحدد من خلال المركب الإسمى للعنوان، سوى من خلال الجارات. إن الصورة التى تقدمها هذه الرواية عن المرأة، صورة سلبية عمومًا، فالمرأة في الرواية، صاحبة غواية ولعنة ومصدر أزمات، إن باختيارها أو بما يتسبب فيه جمالها، المرأة تابعة لسلطان الرجل يبيعها ويشتريها كأي سلعة، ومكانتها في المجتمع مكان هامشية محصورة في الخدمة العائلية وخدمة الزوج، غير أن هذه الرواية وفي مقابل صورتها السلبية عن المرأة، فإنها على مستوى خطابها الروائى وآلياته السردية تعطي للمرأة دورًا أساسيًا، بدءًا من تصوير الرواية بعنوان تتقدمه المرأة، إلى ربطها بأهم المسارات السردية فيها.