طلقت يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري فعاليات مهرجان الفيلم الفلسطيني في لندن بعرضٍ افتتاحي لفيلم «اصطياد الأشباح» للمخرج الفلسطيني رائد أنضوني المُقيم في باريس حاليًا، ويُعد هذا الفيلم علامة فارقة في تجربته السينمائية لأكثر من سبب، فالفيلم مميّز من الناحية الفنية لأنه يجمع بين تقنية الفيلم الروائي والوثائقي في آنٍ معًا، بل يمكن القول إن هذا الفيلم يتحرك في المنطقة الرمادية التي تروي وتوثّق ما جرى لعدد كبير من السجناء الفلسطينيين الذين أمضوا سنواتٍ طوالاً في السجون الإسرائيلية. كما أن تتويجه بجائزة أفضل فيلم وثائقي في الدورة السابعة والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي، وضعه في خانة الأفلام المطلوبة في معظم المهرجانات السينمائية العالمية، فلا غرابة في أن يكون فيلم الافتتاح في هذا المهرجان أو غيره من المهرجانات السينمائية التي تراهن على الجانب الفني، وتعوّل على الرؤية الإخراجية لصانع الفيلم ومبدعه، الذي يتعاطى مع ثيمة الفيلم من وجهة نظر إنسانية تهزّ الكائن البشري، وتلامس مشاعره الداخلية العميقة. إعادة التمثيل يلجأ العديد من المخرجين إلى إعادة تمثيل الوقائع التي حدثت بواسطة تقمّص الأدوار، ولكن ما فعله أنضوني أبعد من ذلك بكثير فقد أعاد بناء اللوكيشن أو معتقل المسكوبية الذي لم يره السجناء من الداخل، لأنهم يلجونه بأعين معصوبة أو بأكياس تغطي كامل رؤوسهم وتحجب عنهم النظر، كما تسبب لهم صعوبة في التنفس، وهذا العماء الإجباري يضطرهم إلى حثّ وتحفيز المخيّلة الشخصية لكل سجين على انفراد. أما التحدي الآخر الذي يُحسب لمصلحة أنضوني الإبداعية أيضًا فهو لُعبة فنية ابتكرها المخرج حين أسند للمُعتَقل الواحد دوريّ السجين والسجّان وأجبره على أن يختبر مشاعر الضحية، ويفحص أحاسيس الجلاد في آنٍ، كما حصل مع الممثل المحترف رمزي مقدسي، الذي أجاد في دور المُحقق، لكن المخرج أسند له في خاتمة المطاف دور السجين. بدو لمُشاهدي هذا الفيلم أن السجناء جميعهم لم يمثلوا أدوارهم ولم يتقمصوها أصلاً، لأنها تعيش في أعماقهم، ولم تغادرهم بعد سنوات طويلة من إخلاء سبيلهم، لأنها تعيش معهم في الداخل مثل الأشباح، وكل ما فعلته قصة الفيلم السينمائي أنها ساعدتهم على اكتشاف ذواتهم من جديد، فالحياة أولاً وأخيرًا هي رحلة اكتشاف متواصلة تكمن عذوبتها في الرحلة ذاتها وليس في الوصول إلى الهدف. وبما أن عدد السجناء كبير جدًا ولا يمكن التوقف عندهم جميعًا، لذا يتوجب علينا انتقاء بعض هذه الشخصيات المُصادَرة لكنها غير منكسرة رغم وجودها في زنزانات مروّعة، فمحمد خطّاب الذي رأى أمه في الحلم وهي تدخل إلى مركز التحقيق وبيدها إبريق ماء، وحين تحاول أن تسقيه الماء رفض وطلب منها أن تُسقي رفاقه الآخرين في الزنزانة، ثم رسم ملامحها فنان تشكيلي كان موجودًا في طاقم العمل، وأظهرها كما لو كانت هي بالضبط وهذا الموقف التعبيري الحميم يشبه إلى حدٍ ما موقف السجين السابق عدنان خطّاب الذي سرد لنا قصة أخيه السجين الذي حاول الانتحار وحين طلب الرسّام أن يرسمه قال له عدنان: ارسم رائد أنضوني فهو يشبهه كثيرًا وإن كانت بشرته أغمق قليلاً من بشرة أنضوني الذي تحوّل إلى شقيق لأحد السجناء أو هكذا تخيّل رغم أن بعض السجناء أو الممثلين نظروا إليه كمخرج ديكتاتور يستبد بالآخرين جميعًا ويصادر حريتهم الشخصية خاصة وديع حناني الذي لعب دور مساعد المخرج ثم تمرد على ديكتاتوريته. هكذا تتوالى القصص فالعاشق يسرد قصة حبه، والمثقف يكشف لنا عن هواجسه الثقافية، وثالث يرفض الثقافة جملة وتفصيلا، ورابع يتحدث عن المثلية الجنسية، ثم يتدارك الأمر ليقول إنه مشهد سينمائي لا غير، وخامس يتحدث عن شوقه ولهفته إلى ولديه وزوجته، ولم تكن المرأة بعيدًا عن هذه الزنانين التي تقبض الأنفاس، فإحدى الشابات كانت نزيلة هذا المعتقل ذات يوم، ولكنها تحررت منه، وأصبحت أسيرة لذكرياتها المرة التي تعيش في داخلها مثل الأشباح التي يتعذر اصطيادها ودفنها في ذاكرة الماضي البعيد نسبيًا. الضربة الفنية في غالبية الأفلام الناجحة إبداعيًا ثمة ضربة فنية تلوي عُنُق القصة السينمائية ولعل هذه اللمسة موجودة بقوة في فيلم «اصطياد الأشباح». والمتتبع الجيد لهذا الفيلم تحديدًا ينبغي أن يلاحظ حضور الشبح غير مرة على مدار الفيلم. ففي مستهل الفيلم رأينا الشبح يرافق المخرج رائد أنضوني الذي كان يمثّل أيضًا، لأنه عاش تجربة السجن في شبابه، وحينما انتهى الفيلم وغادر أنضوني السجن تَبِعه الشبح وربما لن يغادره أبدًا مثلما لم يغادر بقية المعتقلين، الذين تحرروا من محنة السجن ولكنهم، في الأقل، تعرّفوا على الشبح، وعلِموا بمكانه وإن كان يترصدهم، ويحصي أنفاسهم. لا يمنح مهرجان برلين السينمائي الدولي جوائزه اعتباطًا، وحينما يتوّج «اصطياد الأشباح» بجائزة أفضل فيلم وثائقي فهذا يعني من بين ما يعنيه أن هناك لمسات جمالية وفنية عديدة يتوفر عليها هذا الفيلم، ومن بينها التقنيات الضوئية التي رأيناها قبل أن ينتهي الفيلم بدقائق معدودات، كما أن هناك لمسات رمزية منحت الفيلم عُمقًا مضافًا مثل مشهد الطائرة المروحية التي ظلت تتابع السجناء ليس في معتقلهم فقط وإنما في مختلف أرجاء العالم بدلالة حركة الطائرة حول الكرة الأرضية. وعلى الرغم من أن غالبية الشخصيات غير محترفة لكنها أدّت أدوارها على أكمل وجه ربما لأنها عاشت التجربة، وتمثلتها جيدًا، ولم تعد هناك حاجة «للتمثيل» لأنه مهما أُتقن، وارتفع مستواه لن يصل إلى القدرة التعبيرية الفائقة التي يتوفر عليها من جرّب السجن، وعاشه بتفاصيلة المؤلمة التي انحفرت في ذاكرته الفردية، ورغم حُسن الأداء ينبغي الإشادة بدور المخرج رائد أنضوني الذي استعان بفتحي فليفل، مدير برنامج الصحة النفسية في جمعية الهلال الأحمر ليشرف على طاقم الفيلم أثناء التصوير، ويقدّم ملاحظاته القيّمة في هذا الصدد، ولعل أبرزها حرية السجناء في أن يتركوا العمل في أي وقت يشاؤون خوفًا عليهم من الانتكاس بسبب عودة الكوابيس القديمة التي تؤرقهم ليل نهار. جدير ذكره أن رائد أنضوني أنجز فيلمين سابقين وهما»ارتجال» و«صداع» إضافة إلى «اصطياد الأشباح» الذي وضعه في مصاف المخرجين الأوائل الذين يعدون بالكثير من الأفلام النوعية التي تعْلق في ذاكرة المتلقين لأطول فترة ممكنة.