فيلم "المفضلة" يسعى إلى الكشف عن دناءة السلطة، وتدني من يديرون الأمور من وراء الستار، وتفاهة الاستبداد أيضا. فيلمان كبيران من أفلام المسابقة الرسمية في الدورة ال75 من مهرجان فينيسيا جذبا الأنظار بقوة ودفعا بالحرارة والحيوية مع بداية عروض المسابقة التي انطلقت الخميس في تنافس لم يشهده المهرجان العريق منذ سنوات، مع وجود عدد كبير من الأسماء المرموقة في عالم الإخراج وأساسا من عالم “سينما المؤلف” أي المخرج صاحب الرؤية السينمائية الخاصة. فينيسيا (إيطاليا) – قدّم مهرجان فينيسيا السينمائي الجمعة فيلمين أنتجا قبل حملة “أنا أيضا” التي ظهرت بعد الكشف عن أعمال التحرش الجنسي في هوليوود، ولكنهما في الوقت نفسه يمكن اعتبارهما مثالين على ذلك الاهتمام الكبير الذي أصبح السينمائيون يولونه لإبراز دور المرأة في السينما بعيدا عن صورتها التقليدية كزوجة أو عشيقة أو صديقة، أو كسلعة تكميلية. يأتي إلى المسابقة متمردا على مهرجان كان الذي دأب على المشاركة فيه المخرج اليوناني المرموق يورغوس لانتيموس (45 سنة) الذي فتح أمامه فيلم “ناب الكلب” (2009) ومن بعده “الألب” (2011) الباب للخروج من عالمه المشغول بعبثية الواقع اليوناني المعاصر، لكي يخرج أفلاما أخرى ناطقة باللغة الإنكليزية تكون أكثر قبولا لدى الجمهور الغربي. وبعد “سرطان البحر” (2015)، ثم “مقتل غزال مقدس” (2017)، ها هو يعود اليوم بفيلم شديد الاختلاف عن كل أفلامه السابقة، وهو فيلم “المفضلة” The Favourite. والفيلم الجديد لا شك أنه يعتبر من أكثر أفلام لانتيموس قربا إلى الجمهور العريض، وقد قوبل بحماس كبير في عرضه الصحافي ثم بعد العرض العام بالمهرجان، وفيه يعود لانتيموس إلى بريطانيا القرن الثامن عشر، إلى عهد الملكة آن من خلال كوميديا تدور داخل أروقة البلاط الملكي، تشيع فيها المؤامرات والدسائس، وتدور حول شهوة السلطة والرغبة في السيطرة والتنافس الشرس بين امرأتين، تتطلع كل منهما إلى أن تحظى بمكانة الوصيفة المفضلة لدى الملكة آن التي كانت تعاني منذ وقت مبكر من اعتلال صحتها. وينتقل الفيلم من الرغبة في الاستحواذ على رضاء الملكة إلى التدني الأخلاقي والسقوط في سياق سردي تقليدي إلى حد كبير (وهو ما يجعل مهمة الجمهور سهلة هذه المرة مع لانتيموس بعيدا عن رموزه الصعبة) يسعى إلى الكشف عن دناءة السلطة، وتدني من يديرون الأمور من وراء الستار، وتفاهة الاستبداد أيضا. تقوم بدور الملكة آن الممثلة البريطانية أوليفيا كولمان التي تقبض على الشخصية بتناقضاتها بكل قوة وبراعة في التجسيد والتقلب من الضعف الشديد والتردد والتلعثم إلى العنف والشراسة واليقظة، ومن الشراهة في الأكل والجنس الشاذ، إلى السقوط في الغيبوبة ثم العودة إلى القبض على مقاليد الأمور، ومن الحب الشديد والتمسك الطفولي إلى الانتقام البشع. إنها تبدو في لحظة مجرد طفلة صغيرة في حاجة إلى من يتولى أمورها، فهي حتى لا تستطيع السير ويضعونها بصعوبة على مقعد متحرك، وفي لحظة يمكن أن تغضب وتصب اللعنات على الجميع. آن مريضة بقرح في ساقيها، لا تقوى على السير بشكل طبيعي، مترهلة مفرطة في السمنة بسبب إدمانها تناول المشروبات المسكرة والحلوى والأكل في منتصف الليل، وهي تعتمد بالدرجة الأساسية في تسيير أمور المملكة على “الليدي ساره تشرشل” أو “دوقة مارلبورو” (رتشيل ويتز)، التي تقيم علاقة خاصة مع الملكة تستولي من خلالها على عقلها وقلبها إلى درجة أنها تناديها باسمها المجرد آن، وتصدر لها الأوامر وتنهرها. نموذج آن رغم الجوانب الكوميدية في تصرفاتها وشخصيتها، تكمن فيها أيضا جوانب تراجيدية، فهي قد حرمت من الأبناء، وقد أنجبت لزوجها 17 طفلا لكنهم ماتوا جميعهم، وأصبحت تسريتها الوحيدة تقريبا التي تعوضها عن غياب الأطفال، 17 أرنبا تحتفظ بها داخل أقفاص في غرفة نومها، وتترك لها الفرصة بين وقت وآخر للانطلاق خارج الأقفاص والجري فوق بساط الغرفة الشاسعة. ما يحدث هو أن فتاة أكثر شبابا وربما أيضا أكثر جمالا وجاذبية من ساره تصل إلى القصر حاملة رسالة تزكية، إنها “أباجيل” وهي في الحقيقة ابنة شقيق ساره نفسها، لكن رغم أصولها الأرستقراطية تعرضت أسرتها لضائقة أدت بها إلى أن تأتي اليوم للعثور على عمل. في البداية يسندون إليها العمل كخادمة في المطبخ الملكي، وهي تتسلل ذات يوم وتداوي قرح ساقي الملكة باستخدام بعض الأعشاب الطبية فترتاح الملكة من تأثيرها، فترفع ساره من شأن أباجيل وتجعلها خادمتها الخاصة، تأتمر بأوامرها وتطلعها في غيابها على كل ما يحدث في القصر. لكن أباجيل ستمضي في التقرب من الملكة، بل وتغويها جنسيا إلى أن تستولي عليها تماما في منافسة شرسة مع ساره التي تحاول بشتى الطرق أن تبعد الملكة عنها، لكن أباجيل تتمكن من وضع السم لساره التي تسقط من فوق صهوة الحصان وتصاب بجروح تشوه وجهها، فيلتقطها رجل يعمل لحساب ماخور كبير مخصّص للسادة النبلاء، يعالجونها هناك ويبقون عليها أملا في أن تنضم إلى طابور العاهرات من الطبقة الرفيعة، أما أباجيل فتستغل إعجاب فارس شاب بها سيصبح من الوزراء البارزين، وتدفعه إلى الزواج منها، وبالتالي تحصن وجودها ضمن الطبقة الأرستقراطية. في الفيلم مشهد يدور في الغابة، حيث تتنافس المرأتان (ساره وأباجيل) في صيد الطيور بالبنادق، كل منهما تقيس قوة غريمتها في الوقت الذي تريد أن تتفوق أيضا في الفوز بنصيب الأسد من الصيد. وفي إحدى اللقطات، يحتدم النقاش في ما بينهما ويكشف عن الغيرة الشديدة التي تكنها كل منهما للأخرى، وعندما تطلق أباجيل النار فتصيب الصيد، تتطاير قطرات من الدم لتصبغ جانبا من وجه ساره في إشارة تمهيدية إلى ما سيقع لها في ما بعد عندما يصبح وجهها مشوها وتضطر إلى ربط جانبه الأيسر برباط لإخفاء التشوه. يتعرض الفيلم للكثير من الجوانب السياسية، خاصة رفض الملكة الاستجابة لما تطلبه منها ساره من رفع الضرائب، لكنها تقبل إعلان الحرب على فرنسا ثم تتراجع وتقبل توقيع اتفاقية سلام مع الجارة، فهي تغفو ثم تصاب بنوبات يقظة ذهنية مفاجئة تكشف عن ذكاء وحنكة في النظر إلى الأمور السياسية، في تناقض مع ما تبدو عليه غالبا من بلاهة. يورغوس لانتيموس مدهش في سيطرته على التصوير داخل المواقع المختلفة تماما عن عالمه: القصور الملكية من الداخل والخارج، يلجأ كثيرا إلى تحريك الكاميرا (ترافلينغ) أمام الشخصية في ردهات القصر لمتابعتها في ذهابها ورجوعها، وفي الاستفادة من الإضاءة لخلق إيحاءات تشي بالحالة النفسية، والإكثار من اللقطات القريبة للوجوه لتحقيق التأثير المباشر على مشاعر المتفرج، ولكن هذا أساسا فيلم أداء تمثيلي. والغريب أن لانتيموس مؤلف الأفلام الذي لا يولي عادة أهمية كبيرة للممثل في أفلامه باعتباره يشكل جزءا من “الرؤية” البصرية التي تشغله أكثر، يكشف هنا عن قدرة كبيرة على السيطرة على ثلاث من الممثلات (كولمان، ويز، ستون) اللاتي يشتركن في مباراة ممتعة تبرز دور المرأة في جبروتها وشراستها ورغبتها التي لا تعرف حدودا. ولكن أيضا المرأة ككائن جميل لديه شعور بالحب، يدفعه الألم إلى القسوة على الآخرين، ويشعر بالألفة مع الحيوانات.