أصدر الكاتب والأكاديمي المغربي المختار الشاوي العديد من الأعمال الأكاديمية، توزعت ما بين الكتب والكثير من المقالات الأكاديمية. واهتم في الوقت نفسه بالكتابة. ولعل من أبرز إصدارات المختار الشاوي ديوان شعر تحت عنوان «أغلقوا الليل»، تلته رواية «لتسمح لي سيدتي بتطليقها» سنة 2008، وإصدارات أخرى آخرها رواية «الصمت الأبيض» سنة 2014. ويُعتبر المختار الشاوي من أبرز كتاب الرواية المغربية الحديثة المكتوبة باللغة الفرنسية؛ نظرا للمواضيع الجديدة التي يتطرق إليها، إلى جانب أسلوبه في الكتابة الذي يدفع بالمتلقي إلى قراءة أعماله. فرواية المختار الشاوي تمتاز بواقعيتها وقوة نقدها للواقع المعاش، خاصة عن طريق الهزل. فقد عرفت رواية «الصمت الأبيض» نجاحا كبيرا وأدرجت ضمن لائحة العديد من الجوائز الأدبية المغربية والفرنسية، لتطرقها لمواضيع جديدة وانفرادها بأسلوب جديد في الكتابة يزاوج بين ما هو واقعي وفني. فيما يلي حوار مع الكاتب حول الكتابة وهمومها.. ■ كيف ترى الكتابة كمسؤولية؟ □ الكتابة مسؤولية في حد ذاتها، قبل أن تكون مسؤولية اتجاه القارئ أو المجتمع. يجب على كل من يقرر الكتابة أن يتعامل معها بجدية ومثابرة وصبر. والأهم أن يعرف لماذا يكتب. فمَن يكتب من أجل الشهرة أو لإرضاء نرجسيته، فالأدب منه براء. ■ تكتب بالفرنسية، هل تمنحك هذه اللغة مساحة أكبر؟ أم أن هناك سببا آخر لاعتمادها كلغة للكتابة؟ □ اللغة الفرنسية بالنسبة لي أداة فقط. كل لغات العالم تمنح مسافات عريضة للكتابة. المهم هو أن يكون الكاتب ملما بتقنياتها. وعلى أي حال، فكتاباتي الأولى كانت بالعربية، إلا أن مسار دراستي وتكويني كان بالفرنسية، وعندما قررت البدء في النشر كان بديهيا أن أستعمل الفرنسية. هذا لا يعني أنني طلقت العربية بالثلاث. فسأعود إليها لا محالة، وأعتقد أن الذين ما زالوا يتحدثون عن الفرنسية كلغة المستعمر، أو لغة الكفار أو ما شابهها من نعوت، عليهم أن يستيقظوا من سباتهم ويتركوا الماضي وراء ظهرهم. فالكاتب بالفرنسية ليس فرنسيا، ولا يكتب لمصلحة فرنسا وليس عميلا لفرنسا. علينا الاستعلاء عن هذه الترهات والأفكار العقيمة ونعمل من أجل الأدب أيا كانت لغته. ■ بدأت تكتب الشعر ثم تحولت إلى كتابة الرواية.. لماذا؟ □ بصراحة، لا أعرف. فأنا أكتب القصائد والقصص. الفرق يكمن في دور النشر التي تحبذ نشر الروايات، نظرا لإقبال القارئ عليها. وحتى أكون أكثر صراحة، فأنا لا أعتبر نفسي لا شاعرا ولا كاتبا. فالشعر بالنسبة لي هو قمة الإنتاج الأدبي، وأنا ما زلت مؤلفا مبتدئا. أقول مؤلفا وليس شاعرا أو كاتبا. فالكاتب هو من يعيش للكتابة، صباح مساء، يزهد في الدنيا من أجل الكتابة، يعيش من أجل الكتابة، حياته هي الكتابة والكتابة هي حياته. أما أنا فلا أعدو أن أكون مؤلف قصائد وروايات، والكتابة ليست كل حياتي، بل جزءا منها فقط. ليس كل من يكتب قصائد شاعرا، ولا كل من يكتب روايات كاتبا. في الساحة الأدبية، هناك الكثير من المؤلفين والقليل من الشعراء والكتاب. وأنا لم أصل بعد إلى درجة كاتب ولا شاعر. أنا فقط مؤلف. ■ هل يمكن للأدب أن يترجم معاناة المجتمع الحديث؟ □ الأدب أنواع. منه ما يترجم معاناة شخص ومنه ما يترجم فئة من المجتمع ومنه ما يترجم معاناة أمة. المهم، كما قلت سالفا، هو أن يعرف الكاتب لماذا ولمن يكتب. وفي اعتقادي أن على الكاتب أن يكون ابن بيئته وأن يكتب عن عصره ويترك الماضي للباحثين والمؤرخين. ■ في روايتك «الصمت الأبيض»، تطرقت لموضوع مهم جدا وهو موضوع الطفولة المغتصبة في المغرب، لماذا هذا الموضوع بالضبط؟ □ «الصمت الأبيض» كتبته أصلا من أجل إنقاذ أطفال المغرب المنسيين من الموت. فلا يخفى على أحد أنه كلما حل فصل الشتاء ببرده وثلوجه وقساوته، هلك العديد من سكان الجبال والقرى النائية، خصوصا الأطفال منهم. فالرواية هي صرخة من أجل إيجاد حلول لهذا المشكل القاتل، هذا من جهة. ومن منظور الأدب المحض، فالرواية تعالج أيضا مفهوم الشاعر الفرنسي بودلير، التي تقوم على أساس أن الكاتب علية أن يبقى طفلا لكي يستمر في الإبداع. ■ كيف يرى الأديب المختار الشاوي المشهد الأدبي المغربي والعربي اليوم، وبماذا يتميز عما مضى؟ □ المشهد الأدبي المغربي والعربي اليوم له ما له وعليه ما عليه. وإن كان ما عليه أكبر مما له، وذلك راجع للظروف السوسيو- اقتصادية للعالم العربي. فلا يخفى على أحد أن الثقافة عموما، والأدب خصوصا هما آخر اهتمامات العرب والمغاربة. من الناحية السياسية هناك انعدام تام لعزيمة ترقى إلى تثقيف الشعب وتعليمه. العكس هو الصحيح. فالشعوب الجاهلة تسير حيث يأمرها مولاها. في هذا الجو المشؤوم، يصبح الكاتب مثل دونكيشوت، يحارب المروحيات الهوائية ويقاوم التهميش من السلطات واللامبالاة من الشعب الذي يرى الأدب مضيعة للوقت. الكاتب المغربي والعربي هو نتاج إحباطات متتالية، وذلك ينعكس على كتاباته التي تبقى سجينة التنديد بالوضع المجتمعي والسياسي. وفي هذا التنديد كثير من البكاء والعويل والسخط والتمني وقليل من الأدب. من أعطوا العنان لمتخيلهم ونسوا وضعهم المزري واقترحوا مواضيع عالمية ذات بعد أدبي محظ هم قلائل. ■ ما هو تقييمك لدور النشر في المغرب؟ هل ترقى إلى المستوى المطلوب؟ □ بطبيعة الحال، دور النشر في المغرب لا ترقى إلى المستوى المطلوب. ولكن ليست هي المسؤولة عن الحالة المزرية للأدب في المغرب. المسؤولية مشتركة بين كل الفاعلين الثقافيين، بمن فيهم القراء. فلا يمكن لدار نشر، كيفما كانت عزيمتها، أن تكون فعالة في مجتمع لا يقرأ. عندما نعلم بأن دور النشر عليها الانتظار أكثر من 5 أو 6 سنوات من أجل بيع 1000 نسخة من إصدار أدبي، فهذا لا يشجع البتة أي ناشر على قبول ما يعرض عليه من كتابات. والنتيجة تتجلى في ضآلة الإصدارات الأدبية لدور النشر، في حين هناك تسونامي إصدارات فردية يكون الشخص هو الكاتب والناشر والناقد والموزع. ■ خلال السنوات الأخيرة ظهر نتاج أدبي كثير في الشعر والرواية.. ما هو تقييمك لهذه النتاجات؟ □ فعلا النتاج الأدبي كثير وكثيف خلال السنوات الأخيرة، وذلك راجع لتكنولوجيات النشر الجديدة. وإذا تمعنت في الإنتاج، تجد جله على حساب الكاتب، بدون المرور بدور النشر ولا بلجان القراءة. وهذه معضلة أخرى، فالكل أصبح يكتب والكل أصبح ينشر والكل يعتبر نفسه مبدعا، وحذار ثم حذار أن تنتقد ما ينشر. نحن نعيش عصرا، الكتابة فيه أكثر من القراءة. على أي حال، أنا لست ضد هذا الكم الهائل من الإنتاجات لأنني واثق بأن الوقت له غربال كبير سيفرز به ما هو أدبي وما هو إنشائي. ■ ما هو موقفك من النقد الأدبي، ونحن نشهد تراجعاً نقدياً في ما يكتب اليوم؟ □ يمكنني أن أقول إن في المغرب نقادا كثيرين، ولكن ليس هناك نقد أدبي. ما نقرأه هنا وهناك، هو قراءات شخصية تنحصر في جل الأحيان على تقديم الكاتب وملخص الكتاب، بل أكثر ما يكتب هو لغاية التعريف والإشهار والبيع. والأفظع من هذا هو أن الكثير من الذين يسمون أنفسهم نقادا أدبيين يكتبون عن كتب لم يقرأونها، أو قرأوا ملخصا عنها، بل حتى هذا الملخص هو من إنتاج الكاتب نفسه. فكم من مرة اتصل بي صحافيون طالبين مني إيفادهم بمضمون رواياتي لأجد المضمون نفسه منشورا كما هو. المشكل الثاني هو استحالة تطوير نقد أدبي مع انعدام جرائد ومجلات وبرامج متخصصة. في اعتقادي أن النقد الأدبي الوحيد الذي يحظى ببعض المصداقية هو ما ينتج من رسائل جامعية، خارج الإطار الأكاديمي، لا وجود لنقد أدبي في المغرب. ■ ما تفسيرك لغياب دور المثقف في المشهد المغربي، خاصة غياب تفاعله مع الأحداث الأخيرة التي عرفها المغرب؟ □ لا أعتقد أن هناك غيابا للمثقف في المشهد المغربي. كل ما هنالك أن صوته غرق بين ملايين الأصوات التي تتكلم. اليوم، الكل أصبح يلعب دور المثقف. الكل يتحدث ويناقش ويحلل ويقترح الحلول.. و..و، الكل له قناته الخاصة يطل بها على العالم، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ويدلو بدلوه في ما يعلم وما لا يعلم. مفهوم المثقف المتداول عليه في القرن الماضي ولى. المثقف اليوم هو المجتمع المدني. فلا نحمل المثقف ما لا يتحمله، لأن دوره مات مع ولادة العالم الافتراضي. ■ كيف ترى مستقبل الثقافة في المغرب؟ وما هي قراءتك للمشهد الثقافي المغربي؟ □ الثقافة ستبقى على حالها ما لم نصلح التعليم، ما لم نسع إلى نظام ديمقراطي. عند الكاتب التشيكي الأصل، ميلان كونديرا، مقولة عميقة وجميلة في كتابه «فن الرواية»، يتحدث من خلالها عن وضع الأدب في عهد تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية، مغزاها: أنه لا يمكن للثقافة ولا للأدب أنيتطورا في ظل نظام ديكتاتوري. الخلاصة: ستبقى دار لقمان على حالتها. ■ يلاحظ أنك تجدد دائما الموضوعات التي تشتغل عليها في رواياتك، هل هذا التجديد راجع إلى أسباب معينة خاصة بالمختار الشاوي؟ أم أن الكتابة الروائية تستدعي التجديد والبحث عن آفاق أخرى للكتابة؟ □ التجديد أصله رفضي للتكرار. أمقت تكرار المواضيع وطريقة سردها. أعتبر أن الكتابة هي قبل كل شيء مختبر للأفكار والحكي وكل تقنيات الكتابة. لهذا لا رواية لي تشبه الأخرى، مع أنني أحرص دائما على أن تكون نقاط تواصل بين كل ما أكتب عبر شخصيات أو مواقف أو أحداث. أعتقد أن التكرار هو من معضلات الكتابة المعاصرة، خصوصا عند الكتاب المغاربة. ■ ما موقفك من المشهد السياسي المغربي كروائي ومثقف؟ □ المشهد السياسي المغربي كارثي بكل المقاييس. أخطر شيء وقع في المغرب خلال 15 سنة الفارطة هو قتل الأمل. أي مجتمع يمكنه تحمل الفقر والحاجة، لكن لا يمكنه العيش مع فقدان الأمل. وللأسف، القائمون على الشأن المغربي قتلوا الأمل. فلا نفاجأ عندما نقرأ بأن أكثر من 90 في المئة من المغاربة يسعون إلى الخروج من بلدهم. على النظام أن يعي هذا قبل فوات الأوان. العالم تغير والمغاربة كذلك، ولكن أسلوب المخزن في الحكم والتعامل مع المواطنين لم يتغير منذ قرون. ■ كيف تفسر الإقصاء الممنهج للرواية المغربية المكتوبة بالفرنسية في جائزة المغرب للكتاب، بحيث يلاحظ أن الرواية المكتوبة بالعربية هي المسيطرة دائما على هذه الجائزة؟ □ هذه من معضلات الثقافة في المغرب. الحساسيات والحروب المعلنة وغير المعلنة داخل اتحاد كتاب المغرب معروفة ولا داعي للخوض فيها. كلمة اتحاد في حد ذاتها «عبثية» ومضحكة داخل كيان تسوده المحاباة والنبذ. وأصدقك القول، كلما تمعنت في ما يقع داخل اتحاد كتاب المغرب استحضرتني مقولة فيكتور هوغو: «أكبر وأمقت كراهية هي التي توجد بين الكتاب». مسألة الجوائز الأدبية في المغرب هي في حد ذاتها أضحوكة، لأن غاية الجائزة الأدبية هي إعطاء شحنة للأدب، في حين، نرى أن الفوز بالجائزة في المغرب لا يسمن ولا يغني من جوع، اللهم إلا بعض المقالات في بعض الجرائد التي لا يقرأها أحد. ■ ككاتب هل هناك نصائح تقدمها للكتاب المغاربة الشباب؟ □ نصيحتان لا ثالث لهما. القراءة والقراءة ثم القراءة قبل الكتابة. التأني في النشر. السرعة لا تقتل فقط في الطريق بل تقتل الأدب أيضا.