العتبات إشارات، وكان عليّ تجاوز الإشارة الأولى في رواية “مصائر” صاحبة “البوكر العربية” هذا العام للكاتب ربعي المدهون، على رُغم أنها ذكَّرتني بالشعراء الذين كانوا يقدّمون لقصائدهم بعبارات مثل “بينما أنا في الرياض تنسمتُ عطرَ بنفسج فتحركت لواعجُ النفس وكانت هذه القصيدة تعبيرًا عن الحزن” . . . أو غيرها من عبارات. فيما يشبه ذلك؛ يفتتح المدهون روايتَه بحوالي 200 كلمة تحت عنوان “قبل القراءة”، كأن 266 صفحة -هي حجم الرواية- لم تُغنه عن تقديم مدرسي شارح لدوافع الكتابة وكيفية “توليفها” في أربع حركات مستلهما قالب الكونشرتو الموسيقي، مبيّنا مضمون كل حركة، معليا –بنفسه- من قيمة هذا “التركيب التجريبي” نافيا رغبته “في توريط القارئ في قواعد التأليف الموسيقي وتعقيداته” لافتا إلى ما قام به من “أبحاث وجمع للمعلومات”، فالعمل على النص -كما يؤكد- “لم يكن سهلا أو هينا”! مقدمة كهذه، إذا أضفنا إليها ما حواه الغلاف الخلفي من شرح مفصل لحركات الرواية الأربع، كانت كفيلة بحسم ترددي في القراءة؛ فالرواية –عندي- عمل يستدرج فيه الكاتب القارئ داخل عالم ممتع محبوك، ليقول فيه ما يريد كما يريد، داخل اللعبة لا خارجها. ولكن كم من عتبات خادعة! استكملت القراءة، أسبوع كامل وأنا أتعتع نفسي داخل عالم متشابك أجاد المدهون رسم خارطته لكنه لم يجد بث الروح فيها. هناك نوعان من الكتابة؛ الأول هاجسه الرسالة والقضية، واللغة بالنسبة إليه أداة لصنع وسيلة إيضاح جيدة. وكاتبها عادة من المتماهين مع أفكارهم في مساحة “اليقين المغلق”، وجل همّه تبليغ رسالته عبر وسيط. أما النوع الثاني من الكتابة فمحركه القلق والانشغال بفكرة، وقائده التساؤل، واللغة هنا أيضا وسيلته لمعالجة القلق وتوسيع التساؤل وتقليبه وتشخيصه، والكاتب القَلِقُ لا يسكنه اليقين، فاليقين سكون وثبات، لذا تضج كتابته بحياة غير مصطنعة تستدرج القارئ إلى عالمها في حوار ماتع. “مصائر” المدهون تنتمي إلى المساحة الأولى، لغة تقريرية صحافية غير معنية بصنع عالم روائي ماتع بقدر انشغالها بخارطة القصة، لا تستمهل القارئ وترجئ فضوله عبر تسريب الدهشة إلى خياله بل لتخبره بما يريد الكاتب قوله. إنه استمهال صحافي تكاد تشعر بمدى الجهد المبذول في توشيته بما يدفع عنه هذه التهمة، عندما تستوقفك صياغات من نوعية “أنزلت لهاثَها عن أنفاسها ووقفت فوق قدمين من مخاوف وقلق” أو “رسمت على صدرها صليبا من مشاعر” وغيرها من عبارات أُريد لها أن تكون مختلفة وسط الكثير من الصور البلاغية التقليدية مثل نداءات الباعة في السوق التي “تتكسر على أطراف الحارة مثل موج يصل إلى شاطئه منهكا” أو “غامضا ككلمة سر” و”محيرا كلغز”، أو عبارات لويت أعناقها لتبدو مختلفة مثل “عاد كل من في السيارة وجدّد ضحكه”. إذا جازت لنا صياغة قاعدة هنا فهي “بصمات أصابع الرسام على لوحته -إن لم تكن إضافة- فهي خطأ”، ولا يصلح تبريرا لذلك أن يذكرنا –كما فعل في مقدمة الرواية- كم كان العمل مجهدا واحتاج إلى بحث ودراسة. ولا يصلح من الأمر أيضا البيان التوضيحي لمضمون حركات الرواية الأربع على الغلاف، بل رأيته عكس ذلك، فإذا استطعت تلخيص روح الرواية في ثلاث صفحات وغلاف أخير، فماذا تركت للقارئ سوى وعد بعالم مدهش وساحر لا تتوقف خلاله أنفاسه، حتى يجد مبررا لقراءة رواية “محروقة” كما نصف الفيلم الذي يصرّ صديقك -لكي يغريك بمشاهدته- على أن يحكي لك قصته! لا تفتقر “مصائر” إلى مزايا، ففيها بالفعل جهد بحثي لخلق وتشبيك عوالم كافية لتحقيق هدف صاحبها في التعريف ب”الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم بعد حرب 1948” ونقل أشياء عن أحوالهم ودوافع بعضهم. السؤال متى نتخلص من إشكالية تقدير الأعمال الفنية بناء على أهدافها وما تعالجه من قضايا كبرى، إن لم تكن المعالجات كذلك كبرى؟