تجيء رواية “فهرس” للكاتب العراقي سنان أنطون، بمنطق خاص يحاكي احتراق الأشياء والبشر في الحروب التي لا تنتهي، لكن السمة الخاصة في الرواية أنّ للأشياء صوتها في فهرس، إذ تروي الشجرة والجدار والعود سيرها، والتي تخلص إلى نتيجة واحدة؛ الحرب آلة متوحشة، والناس هم صنّاعها وضحاياها في آن واحد، لكن ماذا عن ضحية الضحية؟ هؤلاء ما ينشغل أنطون بفهرسة مصائرهم. رواية داخل الرواية يعمد الروائي العراقي في روايته الصادرة عن منشورات الجمل إلى كتابة رواية ضمن روايته. لينقسم النص إلى رواية الأشياء، والتي يكون راويها ودود عبدالكريم، المثقف الذي لم يغادر العراق، ما جعل منه شخصا مسكونا بنوع من الهوس المدمر بالفقدان. ورواية البشر التي يكون راويها نمير البغدادي، المثقف الذي غادر العراق منذ بداية التسعينات، وليصير بعد سنوات الغربة الطويلة، مسكونا بذاكرة تشبه بلدا محطما. تتقاطع الروايتان على امتداد الصفحات، وتشكلان معا سيرة للخراب العارم. يعتبر تعامل الراوي مع الذاكرة مفتاحا لفهم النص المركب، إذ ليست الذاكرة أداة لاستكشاف الماضي بل هي “حيّز يمر به المرء مثلما الأرض هي الحيز الذي تدفن فيه المدن القديمة”، أي، وبكلام أكثر وضوحا، يتخذ الكاتب من الذاكرة مجالا رحبا للتعامل مع الحرائق المشتعلة أو تلك التي خبت منذ زمن. وللمفارقة، فقد بدا كلّ شيء وكل حياة في الرواية رهنا لنهاية واحدة. لم يشأ أنطون، بالرغم من محاولته، مراوغة تلك النهاية، لم يشأ أن يحيد عنها بشكل قطعي، إذ بدا الانفجار مصيرا محتّما. تبدأ حكاية نمير البغدادي، بقدومه إلى العراق إبان الحرب، مترجما مع فريق سينمائي، يتعرف على ودود في شارع المتنبي، ودود المشغول بفهرسة الدقيقة الأولى من الحرب، بالرغم من وعورة ذلك. إذ أنّه يفهرس لدقيقة فارقة في الوجود الإنساني، زمن شديد التكثيف والألم. شراك الزيف لا يتأخر الكاتب حتى يشبه البغدادي بالثقب الأسود، إلى أن بدت، فهرس، الرواية التي ستقوم عليها رواية نمير البغدادي، كتابة لما لا يكتب، وإذا شئنا استعارة ثنائية كونديرا الشهيرة، الثقل والخفة، فيمكن لنا التوضيح على ضوئها: بين ثقل رواية ودود وخفة رواية نمير، مضى سنان أنطون يسبك السرد بسلاسة. إنّ كلا من ودود عبدالكريم ونمير البغدادي “أنا واحدة”، قام سنان أنطون بتوزيعها، كي يأخذ القارئ في طرق سرد جديدة إلى حقائق ليست بالجديدة حول الحروب، لا سيما حرب العراق. تحضر في الرواية مقولات سياسية عدة، إذ أنّ نمير ضد الدكتاتورية وفي الوقت عينه هو ضد الاحتلال. في الجانب الآخر، فإنّ العدمية التي ينطلق منها منطق ودود، قد جاءت من انعدام أفق سياسي لدى العراقيين. ثمة نزاع غير محسوس بين القولين في الرواية، ينبع من وجهات نظر في الأوطان، صراع متعدد الوجوه؛ بين من هاجر من العراق قبل الاحتلال بسنوات ومن بقي في العراق ومن هاجر إبان الاحتلال. من جهة أخرى لم يخفض ذلك التراكم المعرفي في النص والهمّ السياسي، من اعتبار العمل بذاته مقولة فنيّة جديدة، إذ أنّه رواية تحتوي كلّ أنواع الفنون؛ الشعر والمشاهد المسرحية، والقصص القصيرة والخواطر الأدبية المنفصلة عن المشهد العام، إضافة إلى الاقتباس والحوارات الذاتية. تتجلى الكتابة لدى أنطون على أنّها محاولة “لإعادة الأوتار إلى الأعواد المحترقة” ولهذا بدا مشغولا بأرشفة الأوجاع التي لا تمحى وبتشييد الأبنية التي سحقتها الحروب والصراعات السياسية. وبدا مشغولا بسؤال ضخم! يعتبر هاجسا مصيريّا في كتابة أنطون، وهو عن لسان بطله “كيف يمكن لما أدونه أن يفلت من شراك الزيف ومن هيمنة التاريخ الرسمي؟”، وهو مشغول بصياغة ذلك التاريخ غير الرسمي، يقول فيما يشبه الخلاصة “ملايين الناس مكتئبون. هذه ضريبة الوجود في هذا العالم”. لتصل هذه الكآبة القارئ على شكل احتراق موجع وغير مجد. ولتقتصر فكرة الكتابة لا على كتابة الحرب، وإنّما كتابة خساراتها!