الراوي في رواية إبراهيم فرغلي هو الرواية نفسها، وعليه فإن الرواية ذات بنيتين سرديتين، السرد يقابل السرد ومجلوه، فالسرد هنا داخل السرد في «معبد أنامل الحرير» (أدرجت ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر-2015)، للروائيّ المصريّ ابراهيم فرغلي (مواليد 1967)، سياقان سرديان يتصلان بخيوط خفيّة تربط شخوص السرد «الواقعيّ» (حياة رشيد الجوهري) بشخوص السرد المتخيَّل. إشكالية الهيكل الروائيّ في نصّ فرغلي تتأسس على هويّة مبتكرة للراوي المركزيّ، إذ إن الراوي في هذا النصّ هو الرواية نفسها. رواية متكلّمة لم ينجزها أحدُ الشخوص الأساسيين، مبدعُها. إنها كائنٌ منثورٌ في كراسة تنتقل في أيدي قرّاء محدودين. يباشر هذا الكائن الحكي افتتاحا في محاولة لبناء هويته ومن ثمّ هوية مبدعِه الاصليّ. «هل تدهشكم معرفتي بالكثير ممّا يدور حولي؟ حسنا، ينبغي أن تدركوا أني رواية، أي حاوية معرفة، لكني ينبغي أن أتخذ لهذه المعرفة أسلوبا وشكلا فنيا وأدبيا، أرى بحواسي الادبية وأبصر ببصيرتي الروائية كثيرا مما ترون وأعرف قدر ما تعرفون وأحيانا ما لا تعرفون. فمثلي في ذلك مثل قريناتي، نمتثل في البداية لعقول أيدي خلاقينا ومبدعينا ثم بعد أن تتكون بعض ملامحنا، نضرب بهم عرض الحائط ونقود نحن المسيرة..» (ص26) بهذا المعنى، ينجز هذا الراوي الغرائبيّ علاقة بالمتلقي عبر بنيتين سرديتين. البنية المباشرة التي تتصل بحيوات خالقه وهواجسه وأحلامه وتنقلاته المكانية ومجمل السياقات التي صارت، بالنتيجة، فكرة كائن مكتوبٍ قد يحمل في يوم من الأيام صفة «كتاب». والبنية الاعمق أو إذا صح التعبير الثيمة الروائية، مخيال المبدع إذ يقصها هذا المتكلم، هي المتخيّل الروائي الذي يباشر الشخص نفسه بكتابته. إنها بوجه من الوجوه، سردٌ داخل السرد. الهوية الروائية يحيل هذا البناء الهيكلي، مباشرةً، إلى إشكالية الهوية الروائية القادرة على بناء تماسٍ مع المتلقّي. إنها في نصّ صاحب أبناء الجبلاوي (2009) قد تكون مندرجة في المغزى العميق للطرح المتضمّن في السرد. ونعني فكرة تثمين النتاج الكتابيّ المعرفي لدى البشر والتعامل معه في ظروف معينة بدرجة تغدو معها هذه المعرفة البشرية بشتى أشكالها شرطاً لتحقق المغزى الإنسانيّ بوجهه الأخلاقي. هنا، يكون اشتغالُ فرغلي في البناء الروائي إذ يؤنسن الراوي من خلال تحويله إلى كائن شعوري يسمع ويرى ويتذكر ويتعقل سيرة مؤلفه (رشيد الجوهري)، اشتغالا يندرج في العمق بالمغزى العميق للقصة التي تحاول الشخصية الرئيسية إنجازها. نعني شخصية رشيد الجوهري.»المكتبة كطيف يدخلها الآمنون، والفضوليون، فتستبقيهم للأبد، ولا يخرجون منها، حتى لو خرجوا بأجسادهم فسوف تصطحبهم بأطيافها، مبقية من دون علمهم أو إرادتهم، طيفاً من أطيافهم لديها، فيفقد الزائر جزءاً من روحه في المكتبة من دون أن يشعر، مقابل ما اصطحبه مع من أطياف سكانها. والأهم من هذا كله أنني أدركت خطورة ما تمكن الكاتب الشبح من أن يحققه، فبهذه المكتبة التي تشبه الأساطير، يقول لنا إن المكتبة عقل، يواجه الخرافة والظلم والظلام والخواء الروحي. المكتبة هنا بمنزلة وسيلة للبقاء، للتأكيد على كذب المتكتم وأنصاره، وترسيخ سلطة المعرفة أمام سلطة الجهل، سلطة حرية المعرفة أمام سلطة الرقيب وكذبه» (ص385). المدن التحتية يقص الدفتر/ الراوي، العائم في سفينة وسط البحر، عن الفكرة التي لم تكتمل في رأس مبدعه. إنها مدينة تحتية (مدينة الأنفاق/ مدينة النّساخ) تشتمل على الأشخاص الهاربين من بطش جهاز الرقابة في «مدنية الظلام» الخارجية وعلى رأس هذا الجهاز المتكتم الكبير (يحيل الاسم بوضوح إلى شغل الرقابة). عمليا، يقوم جهاز هو أشبه بجهاز سري معقد بأعمال نسخ لجميع الكتب والمخطوطات التي يصادرها أو يتلفها جهاز الرقابة، في سبيل حفظ هذا التراث وتاليا مقاومة بطش المتكتمين. هذا التخّيل الذي يطلعنا عليه هذا الراوي في سياق سرده لهواجس «رشيد المؤلف» أو سيرته التي تشبه متاهة ذاتية لناحية علاقاته العاطفية وطموحه القديم في ميدان الطيران. متاهة تصل به في النتيجة إلى حدّ تخريب علاقته بيوديت الالمانية ثمّ عودته إلى القاهرة واشتراكه مع صديق من الطفولة «قاسم» (الذي يحتاز المساحة الأوسع من قراءة دفتر الرواية في السفينة) في عمليات تهريب مخطوطات بين مصر وايطاليا تنتهي باختفائه في عرض البحر في ظروف غامضة. يحدثنا الراوي عما ينطوي في متنه من القصة التي لم يكملها رشيد الجوهري: الأحداث الغرائبية والشخصيات (سديم وكيان) وطبيعة العلاقات الشائكة شكل العيش الحر الموازي الذي ينبني في مدينة النساخ أو المدينة التحتية، يعكس، في وجه من الوجوه، محاولة مبدع الفكرة في أخذ مخياله إلى حدود قصوى في عملية تصوير مآل المدنية الراهنة. يحيل هذا، بالضرورة، إلى غير عمل روائيّ، مصريّ تحديدا صدرت مؤخرا، تصب في نفس سياقات الإشارة إلى مآلات الواقع المصري المقفل بالرقابة العسكريتارية الخارجية أو الدينية الذاتية. هذا المخيال الذي يتعامل مع كل عمليات المنع التي تكاد تكون يومية بالتدليل على مدن تحتية هي في العمق إنذارات كمكبوتات هائلة سوف تنفجر في وجه الجلاد. وهي في وجه من الوجوه إشارات إلى مدى التفاوت في وعي الذات والهوية بين نوعين من الناس، الجلاد حبيس العقل الرقابيّ في مدينة الظلام، والفرد المؤنسَن بحرية لا حدود لها في المدينة التحتية. بمثل هذا المبنى الروائيّ، ونعني إقامة الراوي/ الشاهد في مربع هو داخلَ السرد وعلى مسافة منه آن، يكون فرغلي قد أفسح المجال أمام سردياته للخروج من رتابة التقسيمات النمطية للهيكل الروائيّ وتاليا تأسيس إمكانات حيوية أوسع للسرديات لناحية جعلها محكومة بتصورات وتنقلات هذا الراوي/ المبتكر. إنه بوجه من الوجوه وبمثل القفلة التي ينهي بها السرد، شكل من أشكال التعقيد. ولكنه ذلك التعقيد الذي يخرج عن كونه متكلفا بل يدفع المتلقي لنوع من القراءة قد يكون فيها الانتباه اللازم لتفاصيل وعوالم السرديات وحشوها المعرفي وانعطافاتها وتحوّلاتها ميزةً لمصلحة النص لا عليه. في الخلاصة، فإنّ ما يحاول إنجازه رشيد الجوهريّ في تصور شخوص مدينة النسّاخ لا يبدو مألوفا لناحية تحويل العلاقة المعنوية والحسية أو الثراء الحواري بين سديم وكيان تحديدا وغيرهما من الشخوص في مدينة الأنفاق إلى قالب يذوب الكاتب فيه مروحة واسعة الآراء والتساؤلات والاقتباسات الروائية والجدلية الموفّقة التي بها ينشئ النصّ الروائيّ المتين اشتباكات شعورية خافتة وعميقة بالقارئ. ذلك بخلاف السيرة الواقعية لرشيد الجوهري التي تبدو نمطية، إذ يرويها الدفتر القاصّ على القارئ، باستثناء قصة «مهيريت» الاثيوبية التي تظهر في منتصف السرد. وإلى ذلك كلّه، فإن وصول التخييل في عملية النسخ إلى حدّ تقرير النسخ على أجساد نساء عاريات لمواجهة المتكتم بالعري يحيل بالضرورة إلى ثيمة الجسد وقضاياه الراهنة واليومية كمعضلة مستدامة في المدينة العربية. الجسد كموضوع مركزيّ للسيطرة والامتلاك.