دخلت الكاتبة الأردنية حنان بيروتي في مجموعتها النثرية الجديدة "لأنك حبري وبوحي" الصادرة حديثا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان إلى عوالم خاصة بالمرأة، حيث أسلوب البوح الشديد والمكاشفة والمصارحة، وتأكيد الأنوثة والذات وما يختلج بداخلها من هموم وضغوطات نفسية عبر مصالحة واضحة مع الذات أتاحت لها التعبير بجرأة عن مشاعر بالغة الخصوصية للمرأة، وخلقت في نصوصها القصيرة في هذا الكتاب علاقات جديدة بين اللغة الشعرية والبوح الوجداني وضعت فيها حالات شعورية مختلفة تمر بها المرأة بعيدا عن الانفعال في اللغة أو الأسلوب أو الطرح الفني. وتشكل هذه النصوص البوحية القصيرة فضاء مشرعا وخصبا عبرت من خلاله الكاتبة عن خصوصيتها النفسية والوجدانية ناسجة رؤيتها الفنية والفكرية بدون الرغبة في إثارة القضايا الكبرى التي تخص المرأة وبدون الانجرار وراء ندب الذات وبكائها، تبوح حنان بيروتي بما يثور داخلها غير معنية بدور الضحية الذي تتلبسه غالبا المرأة حين تكتب نصوصها، تقول في مقطع بوحي لها: سنابلُ عمري ﻻ تكفي لتملأَ بيدرَ شوقي إليك فكن يا حبيبي حصادَ السنين بموسمِ عشقٍ أخير وكن ظلَّ روحي وملجأَ قلبي حين يأكلُه القحطُ، وييبسُ قبلَ أوانِ اليباب.. وكنْ يا حبيبي... حبيبي! وقد راهنت بيروتي في نصوصها النثرية على فعل الكتابة ذاته كأفق للحرية والخيال بملامسة أنثوية لسحر النص وشعرية اللغة والأسلوب في استدعاء الأحلام والانتظار والوجع والحب والعلاقة السحرية مع المطر، وما تكرار هذه المفردات في نصوصها إلا حفر لا محدود في الذاكرة والوجود وانشداد إنساني شفيف إلى جوهر الأشياء وتطلع بعين أنثوية حساسة إلى ضوء قد يأتي في نفق ما من التعبير. نلاحظ أن اللغة هاجس حقيقي للكاتبة في كل مجموعاتها القصصية والنثرية فهي جنتها ولعنتها حسب ما ذكرت في إهدائها الكتاب "أيتها الكلمات لأنك جنتي ولعنتي أهديك مني.. إلي" وليست اللغة عند حنان بيروتي مجرد أداة مفرغة تتعامل معها بحياد، إن قدرة الكاتبة على إقامة علاقة حقيقية معها تجعل الدلالات تتوالد في نصوصها وتمنح القارىء أبعادا ومعاني لم تكن لتمنحه إياها نصوص أخرى، فقد أتقنت الكاتبة صياغة كون من الأحاسيس الأنثوية بلغة قريبة إلى الشعر تجعل المتلقي يتمنى لو يظل قائما في هذا الكون المنحاز لرؤية جمالية اللغة وعمق الفكرة. جعلت بيروتي الكتاب في خمسة أجزاء، أولها: "لأنك حبري وبوحي" جمعت فيه نصوصها التي يجمع بينها الفرح الذي يحيل آلام لحظات خاصة إلى ورود، ويجعل الروح الآيلة إلى اليباس والقحط بيدرا للحصاد وملجأ للروح، تقول في أحد نصوص الجزء الأول: اللغة هاجس الكاتبة الأكبر وهي على فراش الموت تذكرت الوردة المجففة بين أوراق كتاب عتيق فأينعت بين ضلوعها ورود الحياة في الجزء الثاني من الكتاب "بوح مطر" جاءت النصوص التي احتلت ستة عشر صفحة من الكتاب، على شكل ومضات أشبه بالفلسفة مليئة بمفردة المطر التي كانت ثيمة طاغية للخصب وسط شقوق الخراب: ربما جاء المطر ولم يجد من يشرع له باب القلب. المطر مع الليل كستناء تنضج على مهل لذكريات عمر مضى ومع الصباح عطش لا يرتوي لعمر آت. بعض المطر أنامل شفافة تحترف نبش الذكريات لا شيء يكسر السراب إلا انتظار المطر. في "جدار الوقت" الجزء الثالث من بوح حنان بيروتي يمتد التمني بفرح قادم عبر ومضات خاصة بزرع التفاؤل من خلال شجى خاص وحميمي تستدعي من خلاله الكاتبة ملامح الفرح وتبحث عنه في خبايا الذات وتفاصيل الأشياء من حولها: المساء الموشح بياسمين بهي ﻷلق فرح آت.. ربما أضاع الطريق. يتعثر الصباح بأجنحة فرح مكسورة حين نقيده بألم أمس لم يعد يعنيه. صباح يتنفس الحياة ويينع في القلب مهرجان حلم وفرح.. ليته يأتي! ﻻ يكتمل بهاء المساء وحضور الفرح إﻻ بغياب.. غيابك! المساء روح النهار المبهجة، طفولة العمر، وضحكة الحياة. في الجزء الذي أسمته الكاتبة "ما لم تقله الحكايات" قالته حنان بيروتي في شذراتها القصيرة وسربته لنا بجملة وجملتين ووشت به أجزاء دقيقة وقصيرة من تلك الحكايات التي ظل فيها جانب غامض ومسموت عنه لم يصلنا في تلك الحكاية: ظل الذئب المتألم من قصة ليلى المنحولة ينتظر الفرصة للانتقام، بعدما صار جدا، سامحها. الذئب يبكي نادما كلما سمع الحكاية، ويتمنى ابتلاع الراوي. الذئب أشفق على الجدة ولم يأكلها، وليلى ظلت تركض في الغابة بحثا عن تكملة لائقة بالقصة. الجدة ملّتْ من انتظار ليلى فنامت، وروت حلمها عن ذئب بأسنان كبيرة مسننة، فحبكت ليلى القصة وروتها، وماتت وهي حائرة من كثرة تداولها على اﻷلسنة. في الجزء الخامس والأخير "أرتق وجه المدى بالكلمات" أعادت الكاتبة تشكيل اللحظات العادية التي تمر بنا بلغتها وصورها ومجازها على شكل أحلام محلقة وعمق في الفكرة تجعل القارى يقف عندها طويلا في محاولة لتفسير الصورة واستيعابها: وأنت تصافح هاتفك تفقد أصابع الوقت! الأحلام المحلقة بلا أجنحة تلك عصافير الروح المذبوحة الرجل الطاعن بالسجن، حين رأى عالما طالما حلم به، تمنى الرجوع للحلم الباب الذي يجعلك تنحني كي تعبر ﻻ يعبر الذاكرة بسهولة كلمة تكفي لتجرح بعمق، وقد ﻻ تكفي كلمات كثيرة ليلتئم جرح صغير. وللكاتبة العديد من المجموعات القصصية نذكر منها "الاشارة حمراء دائما"، "فتات"، "فرح مشروخ"، "ليل آخر"، "تفاصيل صغيرة"، "ذكرى الغريب"، "وأحلام متأخرة"، وصدر لها "لعينيكَ تأوي عصافير روحي"، "لمن أهدي أزاهير العيد؟"، وجميعها نصوص نثرية تميزت بلغة شفافة وآسرة، ومن مؤلفاتها المشتركة "أفق النوارس" الذي جاء بعد فوزها بجائزة دار جان للنشر في المانيا.