برحيل عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي التي توفيت الاثنين عن 75 عاما، فقدت الحركة النسوية العربية أبرز المدافعات عن حقوق المرأة فقد قادت طوال عمرها الفكري كفاحا في إطار المجتمع المدني من أجل المساواة وتحرير النساء وكتبت في موضوعة المرأة عشرات الأبحاث والدراسات الفكرية والاجتماعية والنفسية، التي ترجمت إلى لغات عالمية كثيرة. عاشت المرنيسي في الزمن الذي كان يفرض قيودا حديدية صارمة على النساء، فلم تكن المرأة في منتصف القرن الماضي تتمتع بأدنى حقوقها الشخصية في العالم العربي الذي كانت تسوده الذكورية ويعمل متعمدا وقاصدا على إقصاء المرأة عن جميع مجالات الحياة بما فيها إقصاؤها عن ذاتها الأنثوية، التي يعتبرها المجتمع عورة وقاصرة ومبتورة، لكن المرنيسي لم تخضع لكونها الناقص الذي فرضه المجتمع عليها "كحرمة" بل تخطت بكل شجاعتها وفكرها الواعي الحدود التي رسمها للمرأة ميكانيزم العقلية الذكورية العربية التي أمعنت في تشييئها، وكسرت القالب المعد وراثيا لفكرها وأخذت على عاتقها قضية تحرر المرأة وحريتها الشخصية في اللباس فكتبت عن موضوع الحجاب وضرورة الحرية الشخصية في ارتدائه، كما دافعت عن حرية المرأة في التنقل والحركة وهدم الجدران المغلقة عليها للتخلص من قيد الحرمان والحرمة التي فرضت عليها. كانت المرنيسي على الرغم من الاتهامات الكثيرة التي وجهت إليها والانتقادات التي وضعتها في مصاف المستغربين والمستشرقين في رؤيتها لقضايا المرأة في الإسلام، إلا أنها في آرائها وطروحاتها الفكرية كانت تستند إلى موروثاتها الثقافية والفكرية والدينية، وهويتها العربية والإسلامية، وتكتب آراءها حول رؤية هذه الموروثات للمرأة، وتفصل بحيادية وبدون تسجيل بطولات بين الممارسات الاجتماعية التي تسلكها الشرائح المجتمعية ضمن تقسيماتها الفكرية والمادية والطبقية وبين ما يوجد فعلا في هذا الموروث الديني والثقافي من منهج اجتماعي مختلف عما تسلكه المجتمعات في رؤيتها وتعاملها مع موضوعة المرأة. مفردة "الحريم" ارتبطت بشكل كبير بفاطمة المرنيسي إذ ولدت في فاس وترعرعت في أوساط عائلية واجتماعية بورجوازية محافظة، حيث كانت عائلتها مقربة من الحركة الوطنية المناوئة للاستعمار الفرنسي، وعاصرت في طفولتها ظاهرة "الحريم" في بيوت الطبقة الغنية حتى بات معها ذكر هذه الكلمة متبوعا باسمها، إذ احتلت هذه المفردة وما لها من الدلالات الفكرية والمجتمعية أبحاثها وانشغالاتها كعالمة اجتماع يشهد لها بالسبق والجدية والمسؤولية العلمية فيما طرحته من أفكار تنويرية بموضوع تحرير "الحريم". وقد وقفت المرنيسي في كتبها "الحريم السياسي"، و"الجنس كهندسة اجتماعية"، و"هل أنتم محصنون ضد الحريم؟"، و"الجنس والأيديولوجيا والإسلام"، إضافة إلى "ما وراء الحجاب"، و"الإسلام والديمقراطية"، و"شهرزاد ترحل إلى الغرب"، و"أحلام الحريم" على خارطة كبيرة من الأفكار والصور النمطية المسبقة حول المرأة الشرقية، وهذه الأفكار حصرت المرأة كإنسانة وكأنثى وككينونة اجتماعية في ثالوث يشبه القفص المظلم وهو: الجنس والاستعباد والمتعة، فالمرأة ضمن هذا الثالوث الخانق مصدر للمتعة الجنسية المستعبَدة والمستعبِدة في ذات الوقت، وهي أيضا ضمن إطاره لا تتمتع بأدنى موهبة عقلية واستشهدت المرنيسي في ذلك على حكايات شهرزاد التي طبعت الفكر الإنساني بالمغامرة النسوية والتحدي والجرأة التي قل نظيرها في النتاج الأدبي والفكر الإنساني الغربي. وكلمة "الحريم" التي تناولتها المرنيسي في كتاباتها هي اشتقاق لكلمة حرام، أي محرم وممنوع فعله، وهي أيضا دلالة عن مكان يوجده الزوج لزوجاته من النساء والحريم كي يقمن فيه، ولكافة عائلته بشكل عام، ولا يُسمح مطلقاً لغريب بالدخول إليه، ولا يُسمح للنساء أيضا بالخروج منه، فهو بمثابة السجن ويوازيه مصطلح "الحرملك" المعروف، وهو عبارة عن بيت العائلة الكبير، والذي تقيم فيه العائلة العربية بشكل عام، ويسمى في العادة بيت العائلة، والذي يضم كل أفرادها بما فيها الحريم من كافة أعمارهن حتى الطفلات منهن، ولا يسمح للحريم بالخروج منه أبدا إلا للضرورة القصوى وفي الحالات الاضطرارية، لكن يسمح لهن بالخروج إلى السطح في القسم العلوي للتنفس فقط، وهو مكان مثل السجن وله حارس ولا يسمح للرجال بالدخول ولا يسمح للنساء بالخروج منه. وترى المرنيسي فيما يخص ثيمة كتاباتها الأشهر وهو موضوع "الحريم" أن كل ما قيل في هذا الموضوع كان بعيدا عن التاريخ وأغلبه كان متخيلا سواء في الشرق أو الغرب، ففي الوقت الذي رصدت فيه المصادر التاريخية والفن التصويري موضوع الحريم في الغرب على أنه ضرب من التوهم والخيال، ظل الموضوع قائما في الشرق كواقع تاريخي واجتماعي واستمر إلى عهد ليس بالبعيد قبل أن يتفكك تدريجيا في العقد الأول من القرن الماضي خلال حكم الامبراطورية العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، لكنه لم يتلاشَ نهائيا فظل شكله قائما ضمن العائلات العربية وفي الفكر المجتمعي والموروث الثقافي حتى الآن. واعتمدت المرنيسي في دراساتها عن ثيمة "الحرمة" على الموضوعية والحيادية، فذكرت أن الغرب أيضا له حريمه الخاص الذي شكله الفن الشرقي الذي اطلع عليه الغربيون ومن ثم شكلوا لهم حريما خاصا بهم على مقاس خيالهم ومجتمعهم وفكرهم، لكن الشرق هو الأساس في هذا المعطى المثير للجدل. وفي رؤية موضوعية بالغة العلمية والاطلاع تحسب للمرنيسي في معالجاتها وأفكارها المرتبطة بموروثها وهويتها توضح في كل مقارناتها المرتبطة بهذا الموضوع "الحريم" في كل كتبها التي انشغلت بهذه الرؤية بين الشرق والغرب، ففي الوقت الذي عرف فيه العالم العربي الكثير من النماذج النسائية الرائدة في مجالات كثيرة في المجتمع كان الفن الغربي يصور المرأة كنموذج مستسلم وخانع وضعيف ومستلب ولا أبالي.