«هيدي إلكن .. هيدي إلكن» نكزتني الفتاة الجالسة خلفي في حفل ساحل علما - 2011 حين قالت فيروز «وان ما سهرنا ببيروت بنسهر بالشام». قبل أن يبدأ الحفل استغرب الجالسون حولنا قدومنا من مدينة حمص حيث الحرب تأكل المدينة وأهلها، فقط كي نحضر الحفل ثمّ نعود. معهم حقّ، حينها كنّا نظنّ أنّ ما نعيشه هو الجحيم بآخر تجلّياته، اليوم وللأسف يكاد يبدو ذلك الوضع مزحة سمجة، واليوم أيضاً لو قالت فيروز سأحيي حفلاً لتمسّكنا بطرف ثوب صوتها وذهبنا. كيف لا نذهب؟ نحن العُزَّل، المساكين، ضحايا الحروب.. كيف سنقاتل كلّ الخراب المستعر خارجنا وداخلنا إلاّ بالصّعود إلى أعلى قمّة جمالٍ عرفها هذا العالم البائس؟ كيف سنتحوّل من ضحايا إلى منتصرين إن لم نجرح ركبنا وأكواعنا في الطّريق المحفوف بأغنياتٍ كدّسناها داخل مطمورة العمر كانتصاراتٍ صغيرةٍ تجعلنا نستيقظ كلّ يوم كي نقول «صباح الخير»؟ حين لاحت شاخصات ساحل علما على الطّريق، راحت معدتي تؤلمني ذاك الألم العظيم الّذي يرافق مواعيد الحبّ الأولى، وضعتُ يديّ في جيوب معطفي كي أخفي الرّجفة. كان الشهر كانون الأول، لكنّني أؤكد أن الرّجفة لم تكن بسبب البرد. صديقتي التي رحلت إلى أميركا قالت لي: لم أعد أستمع إلى فيروز، كلّ مَن حولي هنا لا يفعلون ذلك أيضًا. شعرتُ بالبرد، ووجدت التعريف الأنجع للغربة: غياب صوت فيروز. التقيتُ بقلّةٍ في حياتي لا يحبّون فيروز، تمنّيت أن أضمّهم وأربّت على أكتافهم مواسيةً. القتلى والقتلة يسمعون فيروز، وهذا يعطي بعدًا أزرق للموت. «مسّيتكن بالخير يا جيران» هكذا افتتح الصّوت الحفل، هكذا حملني إلى خارج المسرح وخارج البلاد الحزينة وخارج نفسي. قال لي أخي: فهمت دموعكِ وصراخكِ وقفزكِ وكلّ حركةٍ مختلّةٍ قمتِ بها، ما لم أفهمه هذه القبلات الّتي كنتِ ترمينها. لن يفهم أيضاً كيف تحسّس خدّه في تلك اللحظة: القنّاص الّذي أخطأ سيارتنا، جارتي الّتي لا تردّ لي السلام، بائع الحليب المغشوش، الصّبيّ الّذي كسر بلّور شبّاكي بكرته، كرة الصّبي، وكلّ من «ركبوا عربيات الوقت وهربوا بالنّسيان». الدّفّ في يد فيروز، ولك أن تتخيّل بهاء هذا المشهد، إن استطعت. لا أستطيع أن أفصل شخص فيروز عن صوتها، أحيانًا أفكِّر بأن لهذا الصّوت شعرًا بنّيًّا، وضحكةً خجولاً. صوتٌ يمشي على قدمين صغيرتين، مع أنّه يبدو لنا ساكنًا السّماء. ثمانون فيروز، وعلينا أن نقول شيئًا في حضرة كلّ هذا الجلال. عنّي ..أحلم ببلادٍ تشبه كيف تخرج من فيروز كلمة «حبيبي» في أغنية «ايه في أمل». أو «سنين» في أغنية «طلّ الورد ع الشباك» . أو «إيه إيه» في أغنية «يا ريت منن»، وإن رفعت سقف أحلامي فوق الغيوم، ستكون البلاد شاسعةً مثل «اسهار بعد اسهار» في حفل بوسطن 1981. حينها فقط لن يموت النّاس لأنّ آخرين يودّون الصّعود إلى الجنّة، فالكلّ صار يسكنها. وحينها - نحن الورثة الشرعيين لهذا الصّوت - سنترك حصّتنا للعصافير، علّها تصير أجمل، وسنرحل بسلام. يقول محمود درويش: «وصوت فيروز الموزّع بالتساوي بين طائفتين يرشدنا إلى ما يجعل الأعداء عائلة» أحمل معي هذه الكلمات كتعويذةٍ وأنا أسقط من شجرة العائلة لأنّ حبًّا ينتمي إلى «الآخرين» هزّ جذعها، ويزفّني الصّوت «كبروا زهور البساتين/ ومتل الكذبة كبرتي/ وحليتي بين الحلوين/ ولعريسك طرتي». ثمانون فيروز، على الجميع أن يصمتوا ويتركوا صوتها وحده يرفرف عالياً.