تتوزّع حياة التونسي آدم فتحي المولود عام 1957 بين الشعر والأغنية والصحافة والترجمة. وفي كلّ مجال من هذه المجالات يسعى دائما وأبدا إلى أن يأتي بالأفضل، طامحا إلى أن يرتقي بنفسه إلى مستوى يجنبه التحنيط، والسكون والجمود وكلّ ما يمكن أن يطفئ فيه جمرة الإبداع. وأظنّ أن آدم فتحي صبر طويلا لكي يطلع على القراء بكتاب يجمع فيه أفضل ما كتبه من أشعار تعكس تجربته، ومفهومه للشعر وللوجود. كما تعكس البعض من ملامح سيرته الذاتية. في هذا الكتاب الصادر عن “منشورات الجمل” بعنوان “نافخ الزجاج الأعمى: أيامه وأعماله” ينتصر لقصيدة النثر مظهرا تميّزا واضحا في كتابتها ليكون في الصفّ الأول من الذين يمارسون هذا اللون من الفن في تونس، وفي بلدان المغرب العربي. ومنذ البداية ندرك أن آدم فتحي يرمز ب”الأعمى” للشاعر في بلد عربي هو تونس. بلد يحتقر فيه الشاعر ويهان وينبذ من قبل مجتمع يعتقد أنه -أي الشاعر- لا يرى الواقع، ولا يدرك حقائقه، ولا نواميسه مفضلا أن يعيش محلقا في عالم الأحلام والأوهام فلا يستفيق من ذلك أبدا. يتعامل المجتمع مع الشاعر وكأنه “أعمى” يتلمس طريقه في العتمة. في حين أن آدم فتحي يعتبر أنه بإمكان الشاعر رغم اتهامه بالعمى أن يرى الضوء في العتمة، وأن يبصر الأشياء في تجلياتها المختلفة والمتعددة، وأن ينفذ إلى أسرار الوجود، وأن يكتب القصيدة التي تضيء له الطريق الشائك المحفوف بالمخاطر، يقول فتحي “انفخْ روحك في قصبتك/ افرح بأنك الأعمى/ افرح بأنك تضع يدك على كتف الأشياء، دائما من الجهة الخطأ/ ليس مهمّا أنك لا ثمن الرغيف المرّ تعرف، لا ثمن اللدغة، لا ثمن النجمة تخور في سمائهم/ المهم أن تعرف أنك مهما رخُصت عليهم، فلا تقدّر بثمن”. ويزيدنا آدم فتحي اقتناعا بأن الشاعر لا يغفل أبدا عن التقاط ما يحدث حوله، ويكتب قائلا “أسهر في عينيّ أهمس/ أحرس جرحي/ أحرسني من أن أنام عمّا يحدث خارج عينيّ”. وها أن الشاعر الأعمى يرى “القطط تتوحّد مع المتوحدين” و”الأزقّة تتململ بهدوء في العتمة، مثل مخطوط يتملّص من يد قرصان”. ولا يفوت الشاعر الأعمى أن يدرك ما بالجسد الهشّ “لديك في جسدك ما به ترقص في فراديس بحجم اليد مع شعراء ضالين، يكتفون من السعادة بنصف رأس مصلي وجرعة من أحمر ماغون” (ماغون هو نبيذ تونسي). وقد يكون الشاعر الأعمى “فارس نفزاوة” (منطقة صحراوية في أقصى الجنوب) الذي فقد والده وهو في العاشرة من عمره، ومعه فقد طفولته ليدفنها إلى جانب قبره. وفي سنّ الخامسة عشرة، فقد والدته. ومنذ ذلك الحين أخذ يضرب في الأرض مجتازا الفيافي، وعابرا مدنا وقرى منسية في العراء بحثا عمّا يمكن أن يساعده على فكّ ألغاز الوجود. ولم ينتبه إلى نفسه إلاّ عندما تجاوز الستين. عندئذ تساءل “أين نسي نفسه”. ثم لم يلبث أن “عاوده المشي باتجاه الآخرين، حرّا كما سيظل: بيد يقي أطفال الرمال، بالأخرى يعلمهم أن يحولوا الرمل إلى زجاج”. براءة الطفولة يعود الشاعر الأعمى إلى براءة الطفولة الأولى بحثا عن “الزمن المفقود” ليصف لنا لحظات بعيدة من حياته قبل أن ينطق بالكلمات التي ستصبح لعبته المفضلة في ما بعد، يقول آدم فتحي:”طفل مقمّط في براءتي/ أتلصّص من سرير الجدة/ أخي يندلق في الطست قطرة قطرة من بئر أمي/ خلفها الشدّادة/ بخور يعجّج فوق/ الشمعة تحت/ الموسى والخيط الأحمر، مسمار لعين الحسود، قرن الفلفل الشائح، القابلة تبصق الكمّون على وجه أخي، كي يُكتب له الحسْنُ”. وتلوح فيروز للشاعر الأعمى شجرة فائقة الفتنة. ودائما هي “أجمل من البارحة”، وروحها أيضا “أكثر شهوة، وحول شفتيها تجاعيد أقل”. أما وجهها ف”يفوح بشجن مبهج، ومن نهديها يتصاعد عطر شفّاف”. وعن صوت فيروز يكتب الشاعر الأعمى “في صوتها تقول. في صوت فيروز شجرة أوراقها قصائد حبّ/ انظرْ شجرة وارفة الظلال، على الرغم من أن في كلّ ورقة شمسا تسطع”. ولا ينسى الشاعر الأعمى أن يشير من حين إلى آخر إلى مغنين آخرين أعجب بهم، وبأغانيهم استعان لطرد الضجر، وتخفيف وطأة الوحدة في مراحل مختلفة من حياته مثل صليحة والشيخ إمام وغيرهما. كما لا ينسى أن يمجد فنانين من أمثال الراحل نجيب بالخوجة الذي يرسم دائما مدينة تونس صامتة، ولكأنها مدينة خلت من سكانها. وفي قصائد أخرى، يتحدث الشاعر الأعمى عن مآس عربية تكاد تكون بلا بداية ولا نهاية، وعن جراح فلسطين وآلامها، وفي تونس، وفي ساراييفو، وفي أماكن أخرى من العالم. وهو يحزن عندما يرى “الوردة تذبح أمام عينيه، وطفلا ملقى على صدر الطريق، فلا يعرف أحد من منهما يقبّل الآخر، الطفل أم الطريق”. وفي النهاية يمكن القول إن كتاب “نافخ الزجاج الأعمى” هو في الحقيقة تأبين للشاعر نفسه وهو لا يزال على قيد الحياة!