شرعت الثقافة العربية في فرد أجنحتها والانطلاق منذ العصر الأموي مرورا بالخلافة العباسية استنادا على مخزون وفير من الترجمة والتعريب اللذين نقلا العلوم التجريبية ثم الفلسفات النظرية من شتى بقاع الأرض. تبنى عادة النهضات الثقافية والحضارية على الترجمة، ذلك إذا علمنا أن الفعل الثقافي والحضاري هو فعل تأثير ومتأثر كفعل إنساني بين الامم لا يخص شعب دون اخر.لهذا لا نفهم النهضة التي قامت في عصر الخليفة عبدالله المأمون (القرن الثالث الهجري) إلا بما حصل من ترجمة مؤلفات الإغريق والسريان إلى العربية. وتبدو حركة الترجمة التي شهدها التاريخ الباكر للحضارة العربية مرحلة من مراحل عملية أكبر كثيرا فى تاريخ لقاء الثقافات. وتعتبر حركة الترجمة من اليونانية والسريانية مرحلة أخرى من مراحل هذه العملية الكبيرة في لقاء الثقافات. ورغم الزعم بأن اللقاء الواضح بين ثقافات الشرق والغرب تمثل في إضفاء الصبغة الهللينية على العالم العربي والإسلامي، تبدو الحقائق التاريخية مخالفة لهذا الزعم من ناحية، كما أن الحضارة الهللينية نفسها كانت تعبيرا عن ثقافات يونانية وغير يونانية من ناحية أخرى. وكانت كافة مراكز النشاط الفكري في غرب آسيا إبان الفترة التكوينية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية (أي مراكز التعليم الطبي، والفلسفي، والمنطق والتاريخ... وغيرها) في الرها، ونصيبين، وقنسرين، وجنديسابور، وحران، وفارس وبلخ، كلها كانت تحمل التراث القديم لهذه المنطقة بألوانها المسيحية والمجوسية والبوذية وهو التراث الذي أفادت منه حركة الترجمة العربية التي لم تركن على الاعتماد على التراث اليوناني وحده. لكن هل عرف العرب لغات أجنبية وترجموا بواسطتها بعض الآثار المهمة في العلم والأدب إلى اللغة العربية قبل الإسلام؟ يحاول الباحث عبدالفتاح مصطفى غنيمة الإجابة في كتابه "الترجمة في الحضارة العربية الإسلامية" عن هذا السؤال، فيرى أن الباحثين والكتاب قد اختلفوا حول هذا الأمر، ولكنه يرى أيضا أن من الحقائق التي لا ينقصها دعوى من الشرق والغرب أنه لكي تكون الترجمة من لغة إلى لغة ترجمةً صحيحة فإنه لابد أن يكون المترجم متقنًا للغة التي ينقل منها واللغة التي ينقل إليها كلَّ الإتقان، ولابد أن يكون للمترجم أسلوب واضح فيما يكتب؛ ليكون ما يترجمه بيِّنًا لمن يقرؤه. ومن ثم فإن الترجمة أصعب من التأليف؛ لأن المؤلف ينطلق مع ألفاظه وتراكيبه ومعانيه، أما المترجم فهو أسير معاني غيره مقيَّد بها مضطر إلى إيرادها كما هي، على قدر الطاقة، وعلى علاتها إذا لزم الأمر في الترجمة، كما هي الأمانة والواجب. ويرى الباحث أنه على الرغم من إجماع المؤرخين على أن الترجمة بدأت أيام خالد بن يزيد إلا أنه يعتقد أن اللغة العربية شهدت ترجمات قبل العصر الأموي ويُدلِّل على ذلك وجود مفردات غير عربية وردت في القرآن الكريم، حيث ذكر السيوطي عدد اللغات المنقولة عنها الألفاظ غير العربية التي وردت في القرآن الكريم إلى إحدى عشرة لغة هي: الحبشية والفارسية والرومية والهندية والسريانية والعبرانية والنبطية والقبطية والتركية والزنجية والبربرية. وتحت حكم العباسيين الأوائل، كان هناك اتجاه قوي لدمج غير العرب وغير المسلمين في دولتهم؛ باعتبار أن هذه مهمة مركزية للخلفاء العباسيين. وتعكس العناية والرعاية المنظمة لحركة الترجمة،والمترجمين، من اللغة اليونانية في أثناء تلك المرحلة سياسة الخلافة العباسية الموجهة نحو تبني ما كان الخلفاء يرون أنها العناصر الأكثر فائدة في الثقافات السابقة على الإسلام باعتبارها مسألة ضرورة. فعندما وضع الخليفة العباسي المنصور (136 – 158 ه / 754 – 775 م) أساس مدينة بغداد سنة 146 ه / 762 م، كان معه اثنان من علماء الفلك هما: النوبخت الفارسي الذي كان زرادشتيا واعتنق الإسلام، وماشالله الذي كان يهوديا من بلخ. لكن حركة الترجمة بدأت بالتعرف على ما عند الأمم الأخرى من علوم وشرعت الترجمة في بداياتها المنظمة منذ انطلاق الدولة الأموية؛ فقد عمل الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية على نقل بعض الكتب في الطب والكيمياء إلى العربية ثم أخذ نطاق الحركة يتسع في العصر العباسي وبرزت عدة لغات مختلفة حتى أصبحت الهندية واليونانية والفارسية شائعة عند الطبقة التي تهتم بالعلوم والآداب والفنون، ومما يدل على تفهُّم العرب لحركة الترجمة التي كانوا يقومون بها أنهم بدءوا أول ما بدءوا بكتب العلوم العلمية لا بكتب الفلسفة النظرية فشرعوا بنقل الرياضيات والفلك والطب، ولما كثرت لديهم كتب العلوم اتجهوا صوب كتب الفلسفة النظرية.وكان تولي الخليفة العباسي عبدالله المأمون الحكم بمثابة مرحلة جديدة وفاصلة في علم التاريخ الحضاري؛ حيث اتجه لجمع الكتب من كل مكان وباللغات المختلفة ووضعها تحت يد العلماء والمترجمين في دار الحكمة، وتحققت ترجمات لمؤلفات عديدة جدًّا ولاسيما مؤلفات الإغريق. وبرز من روَّاد الترجمة حُنين بن إسحاق وأولاده، ويوحنا بن ماسويه، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وحبيش بن الحسن الدمشقي، واصطفن بن بسيل. ويوضح كتاب "الفهرست" لابن النديم أسماء عديدة للمترجمين وللكتب المترجمة في شتى أنحاء المعارف الإنسانية من رياضيات، وفلك، وطب، وكيمياء، وفلسفة، وموسيقى.ومن الواضح أن ترجمات يحيى بن بطريق عن السومارية شملت كتاب "الساسة" لأرسطو وكتبا أخرى. لقد كان المترجمون مهتمين بكل نوع من المعرفة المفيدة، كما كانوا يميزون بين الفكر النقدي والفكر الشعبي من بين الركام الطافي الذي قذفت به أمواج الدوامة الآخذة في التوسع لاهتماماتهم، وكانت تلك مرحلة أولية في لقاء الثقافات أعقبتها مراحل أخرى.