هليوبوليس.. هو الاسم الذي أطلقه الإغريق على أولى عواصم مصر القديمة، التي شيدت ربما قبل أكثر من ستة آلاف عام، حيث ترجع كتب المصريات تاريخ إنشائها إلى عام (4240) قبل الميلاد. وهليوبوليس، تعرف اليوم باسم المطرية، وهي إحدى الضواحي التاريخية للعاصمة المصرية القاهرة. وتحظى المدينة التاريخية بأهمية خاصة لدى الآثاريين وعلماء المصريات، وذلك بفضل ما حظيت به من مكانة تاريخية متفردة، في تاريخ مصر القديمة الممتد على مدار قرابة السبعة آلاف عام. وقال لنا الدكتور منصور النوبي، العميد الأسبق لكليتي الآثار بجامعتي الأقصر وجنوب الوادي، في مصر: إن هليوبوليس كانت تُعرفُ أيضاً باسم أوت، وإنه حتى وقت قريب لم يكن في المدينة شيء من معالمها التاريخية، سوى مسلة للمك سنوسرت الأول، وكوم مهدم، وبعض المقابر. وبحسب (النوبي)، فقد كان في المدينة أول صورة طبق الأصل من (الهريم -) هرم صغير - الذي أضاءت عليه الشمس أول ما أضاءت بجانب الكثير من المسلات. لكن المدينة اليوم، وكما يقول الدكتور منصور النوبي، بدأت في البوح بالكثير من أسرارها وآثارها للآثاريين وعلماء المصريات، وشهدت في السنوات الماضية الكثير من الاكتشافات الأثرية المهمة. ويؤكد الدكتور سمير أديب في كتابه (موسوعة الحضارة المصرية القديمة)، أن كهنة هليوبوليس، كانوا من أغزر المصريين علماً، واستطاعوا أن يؤثروا وبقوة في الحياة الثقافية والعقلية والروحية في مصر القديمة، وأنهم أقاموا في معبدهم بالمدينة أول جامعة في التاريخ، وكانت تلك الجامعة متخصصة في دراسة العلم والفلسفة، ويروى أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون، قد قضى فترة من الوقت فى الدراسة داخل تلك الجامعة التي أسسها كهنة هليوبوليس. وروى لنا الأثري المصري والباحث في علوم المصريات، الدكتور محمد يحيى عويضة، أن هليوبوليس التي عرفت بمدينة الشمس، وزاد حكام وملوك مصر القيمة، في ثرائها التاريخي والأثري، من زوسر إلى بطليموس الثاني، قد اشتهرت منذ القدم كمركز روحي لمصر القديمة، كما اشتهرت بالأساطير، التي دونتها نصوص الأهرام، وأن الإغريق شهدوا بما لعلماء هليوبوليس من تفوق بالغ في علوم الفلك، مشيراً إلى أنه مما يروى عن تلك المدينة، أنه كان بها برج لرصد حركة الشمس والقمر والنجوم، وأن المدينة اتبعت تقويماً نجمياً أخذ عنه التقويم الميلادي المعمول به اليوم، مع تعديلات طفيفة. وقال رئيس الجمعية المصرية للتنمية السياحية والأثرية، أيمن أبو زيد: إن هليوبوليس شهدت الكثير من الاكتشافات الأثرية المتتالية خلال الأعوام الماضية، وإن المدينة التاريخية بدأت في البوح بالكثير من أسرارها لبعثات أثرية ألمانية ومصرية تعمل في المنطقة، في إطار مساعي وزارة السياحة والآثار في مصر، إلى كشف كل معالم المنطقة التي غطتها الأتربة طوال عشرات القرون الماضية. ويشير أبو زيد إلى أنه قد كان من بين تلك الاكتشافات العثور على أجزاء لتماثيل ملكية وجدار كبير من الطوب اللبن، يرجع إلى عصر الدولة الحديثة، وذلك خلال أعمال الحفريات، التي تقوم بها بعثة مصرية ألمانية مشتركة في المنطقة. وتضمن الكشف العثور على شارع تاريخي ومجموعة من الأواني الفخارية ترجع إلى عصر الانتقال الثالث، إضافة إلى عدد من الحفر، التي ترجع للعصر الهيلينستي، واحتوت حفرتين منها على بقايا نقوش للملك رمسيس الثاني، من بينها كتلة حجرية عليها تمثيل الملك رمسيس الثاني. وأما الحفرة الثانية فاحتوت على عدد من أجزاء لتماثيل ملكية، أحدها يمثل جزءاً من قاعدة تمثال للملك سيتي الثاني مصنوعة من الكوارتز البني، وتمثال من الجرانيت الأحمر، ربما يرجع إلى إحدى الملكات من عصر الرعامسة، كما عُثر أيضاً على العديد من القوالب المخصصة لصناعة تمائم الفيانس، وحفائر صغيرة من الطوب اللبن، تمثل مساكن ومصانع ترجع لهذه الفترة، إضافة إلى العثور على العديد من الأدوات الحجرية والفخار من فترة عصر المعادي، والتي تمثل حضارة مصر السفلى والتي سبقت عصر توحيد القطرين. وبحسب رئيس الجمعية المصرية للتنمية السياحية والأثرية، فقد شهدت المنطقة أيضاً عثور البعثة الأثرية المصرية، التابعة لجامعة عين شمس، والعاملة في المنطقة برئاسة الدكتور ممدوح الدماطي، عالم المصريات، ووزير الآثار المصري الأسبق، على مقصورة احتفالات الملك رمسيس الثاني، بجانب الكشف عن مجموعة من أعتاب الأبواب المؤدية إليها. ووصف لنا الدكتور ممدوح الدماطي ذلك الكشف بالمهم والفريد، كما وصف المقصورة التي عثر عليها كاملة، بأنها فريدة من نوعها من عصر الدولة الحديثة بمصر القديمة. وأشار الدماطي إلى أن هذه المقصورة استخدمت لجلوس الملك رمسيس الثاني، أثناء الاحتفال بأعياد تتويجه، وعيده اليوبيلي المعروف عند المصري القديم بال(حب سد). وربما استمر استخدام هذه المقصورة لهذا الغرض طوال عصر الرعامسة. وأوضح وزير الآثار المصري الأسبق، أنه تم العثور أيضاً بمعرفة بعثته الأثرية العاملة في المنطقة، على مجموعة مهمة من الجدران اللبنية عثر بداخلها على جرّار تخزين كبيرة من الفخار، مزالت في موقعها الأصلي من عصر الانتقال الثالث تشير إلى أنها كانت منطقة اقتصادية، استخدمت في ذلك العصر لإمداد المعبد باحتياجاته من الغلال، بجانب العثور على جعارين وأوانٍ فخارية وبعض الكتل الحجرية ذات نقوش هيروغليفية، حفر على إحداها خرطوش الملك رمسيس الثالث. وأن أعمال البعثة خلال مواسم عملها الماضية، تضمنت العثور على كتلتين من الحجر الجيري بالجانب الشمالي من تماثيل رمسيس الثاني بمعبد (رع) بمنطقة عرب الحصن بالمطرية، هليوبوليس القديمة، نقشت عليهما نصوص تخص مهندس أعمال الملك رمسيس الثاني، والذي يدعى أمنمإنت، أحد أشهر المعماريين في عصر رمسيس الثاني وأبو المهندس باكنخنسو، الذي أشرف على بناء معبد الأقصر. وبحسب الدماطي، فإنه تم الكشف أيضاً عن سور من الحجر الجيري، يتوسطه مدخل وتليه أرضية من الطوب اللبن. وكانت هليوبوليس، أو المطرية الآن، قد شهدت قيام وزارة السياحة والآثار بإقامة متحف مفتوح بها، ضم مسلة للملك سنوسرت الأول، بجانب ما كشفت عنه البعثات الأثرية العاملة في المنطقة، وذلك بهدف إحياء معالم المنطقة، وتحويلها إلى مزارٍ سياحي يتناسب وقيمتها التاريخية والحضارية.