مؤلف كتاب "أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية" هو القس الكاثوليكي ميجيل آسين، أستاذ اللغة العربية في جامعة مدريد، تلميذ عالم إسباني آخر من علماء اللغة العربية، هو جوليان ريبيرا، الذي حثه على الدراسات الشرقية، وعلمه طرق البحث التاريخي. وقد أثار هذا الكتاب منذ أن ظهر باللغة الإسبانية فضولاً عميقاً في الأوساط العامة، وأحدث هزة عنيفة بين نقاد الأدب. أما الدانتيون الإيطاليون على الأخص فلم يعترفوا إلا على مضض بأن الأصول الإسلامية كانت على الأساس الذي بنى عليه دانتي الكوميديا الإلهية، تلك القصيدة التي تمثل ثقافة أوروبا المسيحية في القرون الوسطى فيما يتعلق بالحياة الأخرى. في البداية يذكر المؤلف: بدأت قصة الإسراء وتعريج محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى عالم الحياة الأخرى ونمت وتطورت كمعظم القصص الدينية الأخرى. والحق أن الروايات المختلفة التي حكيت حول هذه القصة تملأ بتفاصيلها الكثيرة وتفريعاتها مجلدات ضخمة، فقد حاك الخيال الخصيب الجامح حول هذه الفقرة القرآنية روايات كثيرة، ومن ثم تطورت القصة ونمت في صورة أحاديث رواها الرواة وأسندوها إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي يفترض أنه روى لأصحابه ما شاهده من العجائب في تلك الأيام التي لا تنسى. وعن أثر قصة الإسراء والمعراج وعلاقتها بالكوميديا الإلهية، يقول دانتي: يكفي الآن أن ترسى حقيقة واضحة هي أن تصميم الجحيم في قصة دانتي له ما يقابله في القصص الإسلامية.. يتضح جلياً أن مقابلة محمد لخازن النار لها ما يقابلها في جحيم دانتي، وذلك عندما يرفض مينوس العابس والنوتي كارونتي أن يسمحا لدانتي بالمرور وهنا يستبين لنا أن الشاعر دانتي قد نقل المنظر الإسلامي ولكن بصورة فنية أكثر، غلقها بشيء مما استقاه من الأساطير اليونانية القديمة، كذلك تقع مشابهات واقعية أخرى، فإن اندفاع ألسنة النار العنيفة التي واجهت دانتي عند مدخل أول دائرة من دوائر جحيمه، له ما يقابله في القصة الإسلامية عندما فارقت النار وارتفعت حينما كشف مالك غطاءها لمحمد وهو يحاول أن يلقي أول نظرة عليها. وعن جنة الإسلام السماوية في الكوميديا الإلهية، يذكر الكاتب: نستطيع أن نقرر أن أحداً من المفكرين لم ينجح مثلما نجح ابن عربي في مزج جميع التصورات السابقة المتعلقة بنظرية الجنة عموماً، في كل متناسق واحد. ثم أن ابن عربي لم يزين مخططه للجنة بمهارته الفنية فحسب، وإنما وضحه برسوم هندسية، حتى لقد نستطيع أن نرى التصميم العام لمختلف الدور المساوية في نظرة واحدة، وهذه هي أهم الملامح من وجهة نظرنا. مثّل ابن عربي الكون كله بدائرة تنقسم إلى عدد من الأفلاك متحدة الحركة، كل فلك فوق الآخر، بحيث يزيد قطر كل فلك تدريجياً ولا يهمنا الآن غير الأقسام التي توجد بين الأرض والعرش، وتبدأ هذه بسماء الأرض، ثم الماء، ثم سماء القمر، ثم سماء الزهرة، ثم سماء الشمس، ثم سماء النجوم، ثم الثوابت، ثم فلك المنازل، ثم سماء المحرك الأول الذي تنتهي عنده دنيا النظام الفلكي، وأخيراً فوق هذا كله عرش الله ذاته. وضع ابن عربي جنة الأصفياء بين سماء الثوابت وسماء المحرك الأول، وهنا تقع ثمانية أفلاك أخرى متحدة الحركة، كل منها فوق الآخر تمثل الدور الثمانية للجنة السماوية: سطح الفلك المكوكب، دار السلام، جنة الخلد، جنة المأوى، جنة النعيم، جنة الفردوس، جنة عدن، وينقسم كل من هذه الأفلاك الثمانية إلى درجات لا حصر لها، ويقرر ابن عربي كما يقرر دانتي أيضاً أن عدد هذه الدرجات يربو على آلاف تتجمع في مائة فئة مختلفة، وهذه بدورها تمثل عدد أقل من طبقات الأصفياء، لا تزيد على اثنتي عشرة طبقة إذا اقتصرت على أتباع محمد وحدهم، وتشتمل على درجة من الدور لا عدد لها. والآن نرى أنه لا يلزمنا أن نبذل مجهوداً ذهنياً مفرطاً لنتبين التشابه بين هذا التصور ووردة دانتي، لم يستخدم ابن عربي في الحقيقة تشبيه الوردة في نصه، غير أن لمحة واحدة لتصميمه الذي وضعه بنفسه بدقة هندسية كبيرة، من شأنه أن يفصح لنا توا عن مثل هذا التشبيه. وعن الملامح الإسلامية في القصص المسيحية السابقة للكوميديا الإلهية، فيذكر "قصة رؤى النار"، قائلاً: لا نذكر هذه القصة هنا لأن المناظر التي وردت بها أصلية أو ابتكارية بأي صورة، ولكن لأن الدانتيين اعتبروها منذ نشرها الأب كانشيليري باللاتينية في سنة 1824، إحدى أهم القصص السابقة لقصيدة دانتي. وأما الأحداث الرئيسية لهذه الرؤية فهي مستقاة من الأصول الإسلامية، مثال على ذلك: أنه رأى الفاسقين مغمورين في الثلج، والمرتدين تبلعهم الحيات، والقتلة في نهر من الدم، والأمهات اللاتي يمنعن أبناءهن ألبانهن معلقات من أثدائهن، والزانيات معلقات فوق ألسنة من اللهب، كلك تقع على مظهر المسخ الذي تتقلب الأجساد في زفيره وشهيقه الناري، ولو سيفر وهو مقيد بسلاسل في حفرة في أعماق جهنم. وأخيراً المنظر الشائع، وهو الجسر الضيق الذي تعبر عليه الأرواح إلى الجنة. ويذكر الكاتب: أثبتنا من قبل وبصورة كافية أنه كان ممكناً للنماذج الإسلامية للكوميديا الإلهية أن تصل بسهولة إلى إيطاليا وإلى الشاعر الفلورنسي من المصادر الإسلامية، ولم يبق غير سؤال واحد نجيب عليه الآن. كانت هيبة الإسلام في ذلك الوقت راجعة بدرجة كبيرة إلى انتصار المسلمين على الصليبيين، ولقد نسب روجر بيكون - وهو معاصر لدانتي – هزائم المسيحيين بالتحديد إلى جهلهم باللغات السامية والعلوم التطبيقية التي تفوق فيها المسلمون، وليس عجيباً إذن أن يميل دانتي إلى الثقافة الإسلامية نظراً للإعجاب العالمي الذي تمتعت به هذه الثقافة في عصره. وأخيراً يقول الكاتب: اعتقد النقاد في وقت ما أن دانتي كان ملماً ببعض اللغات السامية وعلى الأخص العربية والعبرية. وقد بنى النقاد استنتاجهم هذا على بيتين فريدين في الكوميديا الإلهية، غير أن الرأي الحديث يؤيد الرأي القائل بأن الشاعر قد عمد إلى أن يدرج في هذين البيتين جملاً غامضة لا غير. هذا على الرغم من أن النقاد يقرون بأن الكلمات المنسوبة إلى النمرود إنما تشتمل على عناصر سامية، وليكن الأمر كيفما كان، فكذلك لا يمكن إثبات أنه كان يجهلها، على أننا نستطيع على الأقل أن نفترض أنه كان مدركاً لخاصياتها وجدارتها، باعتبارها وسيلة للاتصال الاجتماعي. الجدير بالذكر أن كتاب " أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية" للكاتب ميجيل آسين ، ترجمة: جلال مظهر ، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ويقع في نحو249 صفحة من القطع الكبير .