يمكن اعتبار كتاب "الثقافة" للكاتب البريطاني تيري إيغلتون، الذي ترجمته الروائية العراقية لطفية الدليمي، وصدر عن دار المدى قبل عام ونيّف، استمرارية منطقية من بعض الجوانب لكتابه السابق "فكرة الثقافة" المنشور عام 2000، والذي كان سببًا مباشرًا جعل منه ناقدًا ذائع الصيت، ومنظّرًا أدبيًّا وباحثًا في حقل الدراسات الثقافية وسياسات الثقافة. نشرت هذا الكتاب جامعة ييل الأمريكية العريقة عام 2016، وهو واحد من مجموعة كتب صدرت له، تُرجم بعضها إلى العربية، منها مذكّراته "حارس البوّابة"، و"النقد والأيديولوجيا"، و"الإرهاب المقدس، و"مشكلات مع الغرباء"، و"معنى الحياة"، إضافةً إلى "فكرة الثقافة". قدمت المترجمة لطفية الدليمي للكتاب بكلمة تقول فيها "ظلّت مفردة الثقافة واحدة من أكثر المفردات إشكاليةً على صعيد المفهوم والتطبيقات، كما ظلّت الدراسات الثقافية، التي تعدّ حقلاً معرفيًّا تتداخل فيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وتاريخ الأفكار واللغويات والفلكلور والسياسات الحكومية المؤسساتية، ميدان تجاذب لم يخفت صدى المعارك الفكرية المحتدمة فيه، وخاصةً بعد الحرب العالمية الثانية، وحيث باتت الثقافة وسيلةً من وسائل القوة الناعمة في الحرب الباردة، ثمّ انقلبت سلاحاً من أسلحة العولمة التي تسعى لتوسيع نطاق الرأسماليات الرمزية المدعمة بمصنّعات مادية تُعلي شأن الاقتصاديات المتفوقة، وترسّخ سطوتها على الساحة العالمية". ويشكّل كتاب "مفهوم الثقافة" بحثًا تأريخيًّا سوسيولوجيًّا أنثروبولوجيًّا مركّبًا في مفهوم الثقافة، وهو مكتوب بطريقة إيغلتون المميّزة التي يركّز فيها على ثيمات محدّدة في سياق الموضوعة الكبرى التي يتناولها، ومعروفٌ عن إيغلتون نفوره من الصلابة الأكاديمية السائدة، وميله إلى اعتماد العبارات القصيرة المتلاحقة التي هي أقرب إلى تأكيد لمواضعات راسخة، وبهذا يكون إيغلتون بحّاثةً مريحاً للقارئ الذي يسعى للحصول على فكرة شاملة وسريعة وجيدة التناول عن موضوعة البحث، وإذا ما كان الحديث يتناول موضوعة معقّدة وكثيرة الاشتباكات مع الحقول المعرفية الأخرى، مثل فكرة "الثقافة"، فإنّ كتاب إيغلتون يعدُّ موجزًا مناسبًا ومدخلاً لقراءات شاملة أكثر تخصّصاً في الوقت ذات. يتناول إيغلتون في كتابه هذا موضوعات الثقافة الجمعية، والكيفية التي بات التمييز فيها بين الثقافة والمجتمع في السنوات الأخيرة غير محدّد الخصائص، وعلى نحو لا يفتأ يتزايد يومًا بعد آخر. يكتب إيغلتون بهذا الشأن في الكتاب "إستحالت السياسة وعلى نحو متزايد مسألة صورة، وشكل أيقونيّ ومشهديات مصممة لإمتاع الجموع..."، ويضيف أن "التجارة والإنتاج باتا يعتمدان أكثر فأكثر على التغليف والتصميم ومنح العلامات التجارية ذات الشهرة العالمية والإعلان والعلاقات العامة، أمّا العلاقات الشخصية فصارت موضوعاً خاضعاً لوساطة النصوص والصور التقنية. إن انتقادات إيغلتون للثقافة المعاصرة قد تكون لاذعة أحيانًا، لكنها ليست أبدًا ساخرة أو باعثة على تشويش القارئ. وفي هذا الصدد يكتب في مكان آخر، غير كتابه هذا، قائلاً إن "الثقافة يمكن أن تكون نموذجًا للكيفية التي نعيش بها، أو شكلاً من هيكلة الذات أو تحقيق الذات، أو ثمرة زمرة من أشكال الحياة المعيشة لجماعة كبرى من الناس، وقد تكون الثقافة نقداً للحاضر أو صورة للمستقبل". كتاب إيغلتون عمل غاية في الإشراق، وباعث على الدهشة، ويمكن فهم مضامينه من غير مشقة، وتتماهى طريقة إيغلتون ومنهجيته في التعامل مع موضوعات كتابه هذا مع خصائص بعض أكثر الكُتّاب إثارة للفكر الخلّاق عند التعامل مع موضوعات يمتدّ نطاقها من الدين والإرهاب حتى إدموند برك، وأوسكار وايلد، وت. إس. إليوت، ومونتي بايثون. يُذكر أن إيغلتون مولود في سالفورد ببريطانيا عام 1943، ونشأ في أسرة كاثوليكية ينتمي الأب والأم فيها إلى جذور إيرلندية. ويعيش في دبلن، وقد كتب بكثافة خلال العديد من السنوات بشأن السياسة والثقافة الإيرلندية، واستأنس في وقت مبكّر من نشاطه الثقافي الموضوعات الخاصة بالاشتراكية الاجتماعية، وصار محرّرًا، وهو لمّا يزل طالبًا، لمطبوعة دورية كاثوليكية ذات توجهات يسارية متطرفة، ودرس في جامعة أكسفورد، وتطلّع للحصول على مهنة في حقل التعليم، ومُنح عام 2001 كرسي الأستاذية للنظرية الثقافية في جامعة مانشستر، أما اليوم فهو أستاذ للأدب الإنكليزي في جامعة لانكستر.