إن لكل إنسان قوة استعداد ذاتية وقدرات ولدت معه، قابلة للنمو باضطراد أو التوقف، ومن ثم التراجع والاضمحلال، وإن الذي يتحكم في معدل نمو هذه القدرات من جانب، أو تراخيها وتراجعها لدرجة متناهية في الصغر إلى ناحية التلاشي من حيث انعدام القيمة، هو ما يُسمى بالعامل المكتسب، وهو ما يمكن تحصيله من الخبرات ودرجات التعلم التي يتلقاها في حياته، وبما أن احتياجات الإنسان دائماً أكبر من إمكانياته فإن عملية تحقيق مستوى يحقق له ذاته يشوبها في كثير من الأحيان بعض من القصور، حتى أن الأفذاذ وهم قلة يعانون في سعيهم لتجسير الهوة بين متطلبات رفع القدرات وما يواجهونه بسبب حالات صعوبات الظروف التي تضعف المقومات الداعمة لديهم، وتبقى حالات القصور هذه تغطي مساحات العمر وما يواجه كل فرد خلال مراحل متصلة من الطفولة إلى الصبي فالشباب وما بعده وكيف أنه أي الفرد نعم أو قاسي من ظروف بسبب صعوبات شتى تعترض سبيل حياته منذ أن كان صغيراً في كنف أسرته، ومن ثم الولوج إلى مرحلة الانطلاق الكبرى إلى مواجهة مشاق معترك الحياة، وأنه إذا ما اعترت الإنسان في مسيرة حياته من صعوبات أثناء مرحلة التنشئة، فإنه ينبغي ألا يتوقف عندها كثيراً ويعاود البكاء على اللبن المسكوب ؛وعلى المرء أن ينطلق إلى حيث ما يجد فيه مبتغاه من أرضية ينجح من خلالها في ترميم ما فاته أثناء عملية التربية والتنشئة ومن ثم يعيد لواقعه اتزانه، وأن يكون مطمئناً إلى أن كل واقع مهما كثرت ضبابية الرؤية فيه فإنه يمكن تغييره نحو الأفضل، فقط عليه أن يتحمل قدراً من المسئولية تجاه نفسه وأن لا يرضى بأن يدرك قصوره ورضى باستمراره حاله المتردي حتى لا ينطبق عليه قول المتنبي: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام ومن هذا المنطلق تأتي الدراسة التي أعدتها د. فاطمة فوزي عبد العاطي أستاذ أصول التربية جامعة طنطا ؛ والتي حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الإنسانية عن أبحاثها العلمية وتستهدف الباحثة محاولة إرشاد كل من يرغب إلى كيفية إعادة صياغة شخصيته وتربية ذاته وفق ما يرغب وما يريد.وبالتالي فإن موضوع هذا الكتاب يتلمس طريقه في تلك المنطقة الضبابية؛ تربية الذات: ماهيتها، أهميتها وكيفيتها من خلال وسائل التعليم الذاتي، أو من غيره من وسائل، وأبرز تقنيات التعلم؛ لاسيما تكنولوجيا المعلومات. وفي ضوء الإطار النظري يمكن انتقاء السير الذاتية لبعض المفكرين ممن عرفوا التعلم الذاتي للكشف عن مدى تحقق شروط "تربية الذات" فيهم، وذلك من خلال تحليل سيرهم الذاتية في ضوء محاور الإطار النظري. وتنبع أهمية الكتاب من جوانب متعددة منها: دعوة للتبشير والتنبيه على إمكانية صياغة الإنسان لمصيره دون تمهل من خلال التعلم الذاتي، وبالتالي قدرة الإنسان على أن يرفع الظلم الاقتصادي والاجتماعي عن نفسه ويرتفع باستمرار لمستوى جديد من الحرية والعقلانية والروحانية ، بل ويقف في وجه طغيان المؤسسات والأنظمة العالمية ليؤكد فرديته وتميزه. كما يجعل من التقنيات الحديثة ولاسيما تكنولوجيا المعلومات وسيلة هامة لدعم ذاتية الإنسان بدلاً من أن يظل كما هو حادث حالياً أداة من أدوات اغتراب الإنسان عن نفسه. وجاء الكتاب في ثلاثة فصول أشتمل الفصل الأول "رؤية منهجية" وتضمن (المقدمة، ومظاهر تضييع الذات، الدراسة الاستطلاعية، موضوع الكتاب، مصطلح الدراسة، محاور الكتاب) وركز الفصل الثاني على الإطار النظري لمفهوم تربية الذات في عدة زوايا في (الفكر الإسلامي ومن الزاوية الفلسفية والاجتماعية والنفسية، ورؤية الدراسة لمفهوم الذات). ثم تناول الكتاب مؤشرات تربية الذات ومنها (المؤشر النفسي والاجتماعي والمعرفي) ثم تحدث الباحثة في سبل كيفية تربية الذات وانتهى الفصل بخلاصة في التنظير للتربية الذاتية. وجاء الفصل الثالث ليتضمن إجراء الدراسة التطبيقية وقامت الباحثة بتحليل السيرة الذاتية لعباس محمود العقاد من خلال سيرته الذاتية التي دونها في كتابيه "أنا"، وكتاب "حياة قلم" وكذلك تحليل السيرة الذاتية للدكتور "زكي محمد نجيب" من خلال كتبه "قصة نفس"، و"قصة عقل" وكذلك "فتحية العسال" التي دونت سيرتها الذاتية في أربع أجزاء بعنوان" حضن العمر". وتوصلت نتائج الدراسة موضوع الكتاب في شقها النظري إلى أن الذات تعني إدراك الفرد لميوله، وقدراته التي لم تظهر لحيز الوجود بعد، ثم السعي والعمل المستمر لصقل تلك القدرات والتعبير عنها، أي الوصول من ذاته الواقعية التي يدركها إلى ذات أخرى يتمنى الوصول إليها، أو تحقيقها، وهي الذات المأمولة، والوصول من الذات الواقعية إلى الذات المأمولة يعرف بتحقيق الذات. ولقد استطاعت الدراسة استناداً إلى الزوايا الدينية والفلسفية والاجتماعية والنفسية، أن تؤسس رؤيتها للذات الإنسانية على النهج الفلسفي الذي يجمع الرؤى المتباينة في اتساق ويؤلف بينها على شرط ان يكون العلم أساس لهذه الرؤية المتسقة. وخلصت الدراسة إلى مجموعة من التوصيات من أهمها مد الناشئ بصورة إيجابية عن الذات مؤسسة على مواقف واقعية، ويقع على أولياء الأمور مسئولية تقبل الأبناء لذواتهم، ولذا يجب على الوالدين إشعار أطفالهم.. وخاصة الإناث بالتقبل والاستسحان والرعاية، الأمر الذي سوف ينعكس على تقبل الأبناء لأنفسهم. تشجيعه على التعبير عن نفسه، ومناقشته في ذلك وليكن من خلال موضوعات الإنشاء في المدرسة، ومناقشات الآباء مع أبنائهم في المنزل، ويمكن أن يتم ذلك للمدرس من خلال بعض الأفكار التي تساعد على ذلك. كذلك تعويد الناشئ على المناخ الجدي في العمل، بحيث يستطيع أن يثابر على العمل لأن تربية الذات تحتاج إلى الجدية والمثابرة حتى يمكن الوصول لمستوى تحقيق صورة الذات التي يرسمها.. توفير العوامل التربوية التي تساعد على الابتكار وانطلاق الخيال، نظراً لما يحتاجه رسم صورة لذات من قدرة على الخيال المبتكر لرسم صورة متفردة للذات.. محاولة توفير عوامل الإبداع من فردية، وابتكار ومثابرة على أن يوجه هذا الإبداع ليكون موضوعه إبداع نمط الحياة اليومي. بعد الخامسة عشر أي في نهاية المرحلة الإعدادية وخلال المرحلة الثانوية يجب توجيه الناشئ لأن يجيب بنفسه وبصدق عن أسئلة وجوده الثلاثة: من أنا؟..ماذا أريد، كيف أحقق ما أريد، ويمكن أن تسير بخطوات توجيه الناشئ للإجابة عن هذه التساؤلات تباعاً والإجراءات التالية تسهم في ذلك: الاهتمام بالنشاط المدرسي واستثمار إمكانيات البيئة التي يمكن أن تخدم اهتماماتهم في أوقات فراغهم، ولاسيما المكتبات المدرسية والمكتبات العامة...رصد جزء من درجات أعمال السنة، أو درجة السلوك، أو درجة تفوق وتمييز لصاحب المجال الذي يحرز فيه تقدماً...عمل جماعات نشاط مختلفة ليندرج الناشئ في الجماعة التي توافقه حتى يجد من يشاركه اهتماماته ويبادله الخبرات في تنميتها...وباختصار فإن ثراء البيئة وتنوعها ومعرفة الناشئ بالإمكانيات المتاحة بها هي الشرط الاجتماعي اللازم لكي ينمي الناشئ ذاته في الاتجاه الذي يرغبه...مد الناشئ بمواقع المعلومات على شبكة الإنترنت التي يمكن أن تفيده في إثراء أي مجال من مجالات اهتمامه، وبكيفية البحث عما يعنيه من موضوعات. ومن المفيد أن يتولى المربي تعريف التلاميذ بمعنى صورة الذات وأهميتها في تشكيل طموحهم...تطوير وتطبيق مقاييس صورة الذات على التلاميذ...تفريغ وتحليل نتائج استمارات قياس صورة الذات لدى التلاميذ ولو من خلال تدريب التلاميذ على عملية التفريغ وقيام رائد الفصل بهذا العمل مع التلاميذ في أحد حصص الأنشطة أو الفسحة، أو حتى تفريغ يوم لهذا العمل الجليل تحت شعار أعرف نفسك...يتولى الإخصائيون حالات التلاميذ الذين يكونون صورة سلبية عن الذات ومناقشتهم فيها في محاولة لتصويبها أو أكتشاف نقاط قوة يمكن أن ينطلق منها الناشئ لتحقيق ذاته...من المفيد أن تعقد دورات إرشادية لأولياء الأمور للتعرف على كيفية معاونة الأبناء على معرفة ذواتهم وتكوين صورة إيجابية عن أنفسهم...وفي سياق الإجابة عن السؤالين: ماذا أريد، وكيف أحققه، يمكن أن تسهم الإجراءات التالية في إرشاد التلاميذ للإجابة... إعطاء فرصة للتلاميذ للتعبير عن أحلامهم بالمستقبل وصورتهم في المستقبل من الزاوية المهنية والأسرية والاجتماعية ومناقشتهم فيها...إعطاء التلاميذ فكرة واضحة بتدريس نماذج حقيقية من الأشخاص الناجحة الذين حققوا ذواتهم وذلك من خلال: الإذاعة المدرسية، الصحافة، المكتبة، عمل مسابقات عن الشخصيات الناجحة كيف نجحت ؟ وما علاقة ذلك بصورتها عن نفسها وإراداتها، وأهدافها المبدئية التي رسمتها في بداية النجاح... استضافة شخصيات ناجحة من البيئة للحديث عن مشوار حياتها هي ترسم نموذجاً وتعطي قدوة للتلاميذ. خدمة ( وكالة الصحافة العربية )