يجيء العيد معلنا انتهاء شهر العبادة والتنسك، ليحتفل به كل من صام رمضان إيمانا واحتسابا، واتخذ من هذا الشهر فرصة لتجديد المنابع الروحية، وتنشيط القوي المتطلعة إلي الله، ومجددا الترابط الإنساني المصحوب بالمحبة والود لبني الإنسان. هذا الدين القيم الذي جاء لينشر السلام، ولكن وفي نفس الوقت الذي يحتفل المسلمون فيه بهذه المناسبة السعيدة يتحالف المتعصبون من المسيحيين في الولاياتالمتحدةالأمريكية كي يقوموا بحرق القرآن، وهو حدث سيكون له تداعياته المختلفة في العالم الإسلامي، بل والعالم أجمع. وسيظل علامة علي الجهل والتعصب والتعنت من هؤلاء الذين لم يفرقوا بين حادث 11 سبتمبر، وبين جموع المسلمين في العالم أجمع الذين يرفض أغلبهم استخدام العنف والقوة. ويمتزج في هذا الحدث السياسة بالدين، التعصب بالعلاقات الدولية، و يستهدف هذا الحدث كذلك إضعافا قوة الرئيس الأمريكي أوباما، الذي تجرأ وأعلن رغبته في مصالحة العالم الإسلامي، وقدم رؤية جديدة للعلاقات الدولية، مؤكدا علي حوار الحضارات، ونازعا فتيل صدام الحضارات، وهو ما شكل تحديا غير مسبوق للوعي الجمعي الأمريكي، الذي يتصور أن حدود العالم هي الحدود الأمريكية، وأن العالم خارج هذه الحدود إما متناغم مع مباديء وقيم الحضارة الأمريكية، أو عدو يحارب هذه الحضارة، وكما قالها بصراحة جورج بوش "من ليس معنا فهو ضدنا". وعندما تجيء هذه العصبة اليوم لتعلن علي العالم أنها تريد أن تحرق القرآن، فإنها تعود بالرؤية الأمريكية إلي ما قبل أوباما، بل وإلي ما قبل بناء الدولة المدنية الحديثة للولايات المتحدة، حيث سادت الروح القبلية و الاعتقاد بالسيادة الغربية، والتي دفعت بالرجل الأبيض إلي القضاء علي حضارة وثقافة الهنود الحمر، وحرمت الإنسانية من رؤية زاخرة بالقيمة والمعرفة. وعندما يجيء اليوم هؤلاء الهمج المتعصبون فإنهم يؤكدون تلك الجهالة التي حملها آباؤهم من قبل. وتقع المسئولية اليوم علي العالم الإسلامي كله، ليدرك أن هناك تحديا عالميا لرسالة الإسلام وأهدافها الكبري، وأنه ينبغي أن تتضافر الجهود لكي تصل هذه الرسالة إلي العالم كله. وحتي يمكن أن يحدث ذلك، فإن إصلاح الفكر الإسلامي وتجديد الخطاب الديني داخل العالم الإسلامي نفسه لابد أن يأخذ مركز الصدارة والأولوية، حيث أن هناك فتنا عظمي تشجع علي عداء الآخر، وعلي استباحة دماء الغير، لأنهم يحملون جنسية لدولة نعاديها، أو يحملون دينا مختلفا اسما عن الدين الإسلامي. وهؤلاء سيكون رد فعلهم من جنس ما قام به أعداء الإسلام، الذين يتعدون علي كتابنا المنزل من عند الله. أي أنهم سيزيدون النار اشتعالا، والكراهية عمقا، وعداء الإسلام قوة. الصورة الراسخة في عقول هؤلاء الذين لم يبذلوا الجهد الكافي للبحث عن مضمون وعمق الرسالة الإسلامية، يؤكدها ويعمقها تلك الاتجاهات التي تضع خطا فاصلا بين الغرب والشرق بين المسلمين وغير المسلمين، ولذا فإن مراجعة ما يتشدق به المتشددون والمتعصبون من كلا الجانبين وتحليله يجب أن يأخذ قدره من الاهتمام. كلا الاتجاهين يزعم لنفسه الإيمان ولغيره الكفر، وكلا الاتجاهين يدعي لنفسه المكانة العالية ولغيره المقام الأسفل من جهنم، ويعتبر أن القضاء علي الخصم واجبا مقدسا يسعي إليه، وهو جزء من الإيمان. سنجد أن كلا يدعي أنه إيمانه هو الذي يدفعه إلي هذا الطريق أو ذاك. إن التدين بالنسبة لكل يظهر في تضخيم الذات وتصغير الآخر، وهو ما يتنافي مع الرسالة الأساسية التي جاء بها كل الأنبياء والرسل، والتي تدعو إلي الدعوة بالتي هي أحسن، والكلمة الطيبة، والرحمة، والبحث عما هو أحسن وأفضل، لا يمكن أن يكون هؤلاء ممثلين أو معبرين عن الرسالات التي جاءت بها الرسل. والخطورة التي يشكلها هؤلاء علي المجتمع العالمي، هو أن الكثيرين ممن يبحثون عن هدف لحياتهم، أو يريدون أن يسبغوا علي هذه الحياة معني دينياً، يسيرون وراء هؤلاء، معتقدين أنهم يتقربون إلي الله. مما يجعلنا نقف وقفة مع النفس متسائلين عن معني الإيمان بالله. ولقد قيل قديما، الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل. ولكن ماهي نوعية الإيمان الذي ينعكس نوره في البيئة التي حوله. قد يكون من الصعوبة بمكان تعريف الإيمان بالله، لأنه تجربة إنسانية فردية، فهو نور يشرق من القلب ويلهم صاحبه رؤية واتجاها، ولا يعرف قوته ومداه في قلب العباد إلا ربهم. والمؤمن ليس في حاجة إلي أن يستعرض إيمانه أو يلوح به، ولكن يدل عليه فعله وسلوكه وآدابه. والإيمان بالله لا يتطلب جدلا أو نقاشا أو إقناعا. فهناك الكثيرون ممن رسخ في عقولهم أنه لا توجد حقيقة إلا ما يستطيع أن يتعرف عليه الحس أو منطق العقل، ولكن الإيمان بالله يدعمه العقل، ولكنه لا يقبل البرهان. الإيمان بالله الذي يشرق من داخل النفس الإنسانية فيملؤها ضياء هو تجربة وجودية حقيقية وليس وهما أو إدعاء، ولا تقوم علي التلقين وإنما تنبع من خبرة روحية. والإيمان ليس عبارة تقريرية يرددها الإنسان باللسان أو يصدق عليها مثلما يصدق علي أي واقع أو حقيقة تاريخية، ذلك أن الإيمان يقين قلبي لا يمكن أن يتزحزح، وهذا نوع من أنواع المعرفة التي لا يستطيع التفكير المادي في الكون أن يدركها. وإذا كانت العبارات التقريرية، يمكن الرد عليها بعبارات تنقدها وتختلف معها، فإن الإيمان من حيث هو تجربة إنسانية فردية (علي الرغم من أنها مشتركة) لا تقبل الجدل، ولا يمكن أن يفرض إنسان علي آخر "الإيمان". أما الدعوة إلي الإيمان فهي تنبيه وتذكرة، لعل القلب يستجيب أو يلتفت إلي ما غفل عنه، وهو ما أكده القرآن في كثير من المواقع "ما أنت إلا مذكر، لست عليهم بمسيطر" ، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"، "سيذكر من يخشي ويتجنبها الأشقي". الإيمان الذي أتحدث عنه، يجعل احترام الحياة أساسا، ولا يمكن أن يكون مرتبطا بالتدمير أو روح الانتقام. لأن الإيمان بالله يعمر القلب الإنساني بالمحبة للبشر ولكل شيء في الكون، ويحرر الإنسان من المشاعر السلبية. المؤمن لا يناصب أحدا العداء، بل إنه تلقائيا وطبيعيا يتطلع إلي أن يهتدي البشر جميعا، وأن يعمر قلبهم هذا النور، متوجها إلي الله أن يغفر لمن أساء إليه، فهو يهزم الظلام بإضاء شعاع من النور، ويهزم النار بإلقاء الماء، ويتغلب علي الكراهية بالمحبة. الإيمان يحرر الإنسان من الأنانية التي تتضخم بإلقاء الضوء علي سوءات الآخرين، وتسعي إلي تغذية العداء لتبرز بتوضيح تفاضلها وعلوها، ولذا فإن المؤمن يترك الحكم لله ولا يتعدي حدوده فيكون حكما علي غيره. إذا قسنا سلوك هؤلاء المتشددين المتعصبين الذين يريدون أن يحرقوا كلمات الله التي جاءت نورا إلي الأرض، سنجد أن إيمانهم هو إيمان بأنفسهم، وليست بتعاليم السيد المسيح الذي قال إن الله محبة. وإذا تأملنا ما يقوله المتشددون والمتعصبون مما يدعون أنهم يدافعون عن كلمة الله وعن دين الإسلام، فإننا أيضا سنجد أنهم قد بعدوا عن رسالة رسول الإسلام الذي خاطبه الحق قائلا: "ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، وقال "إنا أرسلناك رحمة للعالمين". وهذا العزم الذي يمتليء به قلوب هؤلاء وهؤلاء، هو الخدعة الكبري، فهم يظنون أنهم يدافعون عن الحق، وأنهم يقاومون الشر، والواقع أنهم قد تعرضوا لغسيل مخ، ليصبحوا مسلوبي الإرادة، فيسهل تحريكهم وتوجيههم، تحت قوة مسيطرة، تعطي لنفسها ألوهية فوق البشر. هؤلاء الذين يريدون أن يحرقوا القرآن، يتصورون أنهم آلهة يعيدون خلق الأرض علي ما يريدون، ويسيطر عليهم الجهل والعزة بالنفس. وأما هؤلاء الذين يبيحون الحكم علي غيرهم بالكفر، وتملأ قلوبهم شهوة الكراهية والانتقام، فإنهم أيضا يضعون أنفسهم في موضع مالك يوم الدين الذي يعلم ما بصدور العباد. هؤلاء وهؤلاء سيشعلون الأرض نارا وحروبا وضعينة وكرها. ولذا فإن هذا الحدث سيكون وبالا علي الولاياتالمتحدةالأمريكية، لأنها تستنفر مشاعر هؤلاء الذين يكرهون الغرب عامة، والولاياتالمتحدة خاصة، سيكون رد الفعل علي حرق القرآن عنيفا، وقد يذهب المهووسون إلي حرق الكنائس والتهجم علي المسيحيين، ويزداد الأمر اشتعالا، وكأنهم يثبتون للعالم أن المسلمين بالفعل يميلون إلي استخدام العنف. وتزداد ظاهرة كراهية الإسلام، وهو ما أصبح يطلق عليه "الإسلامفوبيا". وهكذا دواليك لنظل في دائرة مغلقة من الفعل ورد الفعل. والأمل هو أن تعود للأمة الإسلامية قوتها، لتدرأ هذا العدوان بتقديم رسالة المسيح من داخل ما قدمه الإسلام، وتدافع عنها، وتشجع كل المؤمنين الذين يتطلعون إلي الخير ويقاومون العدوان والصراع والكراهية. الإسلام كما قدمه رسول الإسلام (صلي الله عليه وسلم) يجمع كل المؤمنين من كل الرسالات ويضمهم إليه، مستعينا بهم لنشر رسالة السلام. إن الله متم نوره ولو كره الكافرون.