كانت التحديات والملفات المطروحة علي القمة العربية من الثقل والجدية ما يجعلها قادرة علي "قصم ظهر" أي قمة، خاصة لو كانت عربية بكل ما عرف عن العرب من تباطؤ وتأجيل حتي تراكمت مشكلاتهم إلي حد يصعب التعامل معه. غير أن صعوبة الملفات لم تكن هي السبب الذي أدي بقمة تونس إلي هذه النهاية المأساوية. فطريقة العرب في إدارة شئونهم، والصراعات والمماحكات التقليدية بينهم والمزايدات والتهرب من المسئولية والمواجهة، كانت هي السبب وراء ما آلت إليه الأمور. منذ البداية كانت الحكومة التونسية متوجسة من انعقاد القمة علي أرضها، وعبرت تونس عن ترددها في استقبال وتنظيم قمة تنتهي بملاسنات وإخفاقات كتلك التي شهدتها قمم عربية سابقة. فتونس لا تريد لاسمها أن يرتبط بقمة فاشلة، ولا يريد الرئيس التونسي أن يجد نفسه مضطرا لفض الاشتباكات والمشاحنات بين زعماء عرب، بما قد يعود عليه ذلك من الإساءة لعلاقاته بهذا البلد العربي أو ذاك. وفوق هذا فإن تونس لم تكن تريد أن تتحمل التكلفة السياسية لقرارات تصدرها القمة تتضمن هجوما علي قوي دولية مهمة كالولاياتالمتحدة، لهذا حاولت الدبلوماسية التونسية تحقيق نوع من التوافق العربي حول مواقف معتدلة تنسجم مع مصالح تونس وسياساتها الخارجية. لم تعلن تونس قبولها عقد القمة علي أرضها إلا بعد أن اطمأنت إلي درجة مناسبة أن القمة لن تكون عبئا عليها. وكانت اجتماعات وزراء الخارجية العرب في القاهرة في مطلع شهر مارس لمناقشة القضايا المطروحة علي القمة هي المجس الذي طمأن القيادة التونسية إلي قراراها بدعوة القمة للانعقاد علي أرضها. إلا أن الرياح لم تأت بما تشتهيه السفن، فبعد أن اتفق وزراء الخارجية العرب في اجتماعاتهم في القاهرة علي إعداد طبعة مطورة من مبادرة السلام العربية التي تبنتها قمة بيروت، بحيث تأخذ الطبعة الجديدة بعين الاعتبار التطورات المأساوية الجارية في فلسطين، وكذلك خطة خريطة الطريق، فإن اغتيال الشيخ أحمد ياسين غير من الموقف، وجعل بعض الدول العربية، وخاصة سوريا، غير مستعدة للتقدم في هذا الاتجاه، الأمر الذي أصاب التوافق المصري السعودي السوري بشقوق هددت القمة. أمين الجامعة العربية عمرو موسي كان له نصيبه أيضا في توتير أجواء الاجتماعات التحضيرية للقمة، ففي مناسبتين علي الأقل أصر الأمين العام علي طرح قضايا غير متفق عليها علي جدول أعمال القمة، فقد طالب الأمين العام بإلحاح بوضع مسألة المشاركة العربية في معرض فرانكفورت الدولي علي جدول أعمال الملوك والرؤساء العرب، وهي القضية التي اعتبرها عدد من وزراء الخارجية العرب أقل من أن يشغل القادة العرب أنفسهم بها. وفي مناسبة أخري ألح الأمين العام علي طرح مشروع إعادة هيكلة الأمانة العامة علي القادة العرب، وهو ما رفضه أيضا عدد من وزراء الخارجية العرب، بسبب وجود اتفاق علي تأجيل المناقشة التفصيلية لملف إصلاح الجامعة برمته إلي القمة التالية. في المناسبتين وجد عمرو موسي نفسه يستمع إلي وزراء خارجية عرب يذكرونه بأنهم وحدهم، وليس الأمين العام، الذين لهم الحق في اتخاذ قرارات بشأن جدول أعمال القمة، الأمر الذي ترتبت عليه مناقشات كان لها نصيبها في توتير الأجواء. ملف الإصلاح الداخلي كان ملفا حساسا آخر، وكانت الدول العربية قد بدأت التعامل مع هذا الملف منذ فترة طويلة تسبق إعلان المشروع الأمريكي حول الشرق الأوسط الكبير، ولكن في علاقة واضحة بالضغوط القادمة من الولاياتالمتحدة منذ الحادي عشر من سبتمبر في هذا الاتجاه. تنبع حساسية ملف الإصلاح الداخلي من عدم وجود تقاليد عربية للتعامل مع المشكلات الداخلية في الدول المختلفة، فالجامعة العربية في التحليل الأخير هي مؤسسة إقليمية تجمع دولا ذات سيادة تتسم بحساسية مفرطة في مناقشة أوضاعها الداخلية، خاصة مع الدول العربية الأخري. من ناحية أخري فإن التفاوتات الشديدة بين الدول العربية من حيث مستويات التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي يجعل من الصعب الحديث عن خطة موحدة لتطوير الأوضاع الداخلية في البلاد العربية، فما يصلح لبلاد لديها خبرة طويلة سابقة مع النظم الدستورية والأحزاب السياسية والبرلمانات المنتخبة لا يصلح لبلاد أخري لم تعرف شيئا من هذا طوال تاريخها. اتفق وزراء خارجية العرب في اجتماعات القاهرة في مطلع هذا الشهر علي الانطلاق من تبني وثيقة "عهد الوفاء والتضامن" التي اقترحتها السعودية، واتفق قادة مصر وسوريا علي تبنيها بشكل مشترك، كأساس لتناول قضية الإصلاح في العالم العربي. وفي اجتماعاتهم بتونس قبل ساعات من القمة المؤجلة، اتفق وزراء الخارجية العرب علي نص مشروع بيان بشأن الإصلاح في العالم العربي مستمد من الوثيقة السعودية، وهو بيان عام يتجنب القضايا الخلافية، ولكنه في نفس الوقت يؤكد التزام الحكومات العربية بتحقيق إصلاح كل حسب ما يتناسب مع ظروفه. غير أن احتجاج تونس في اللحظات الأخيرة علي هذا الاتفاق، وإصرارها علي الحديث بشكل أكثر تحديدا، وبقدر أقل من العمومية حول قضايا الإصلاح، وخاصة علي النص علي الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، قد أفسد الأجواء. فبالنسبة لبعض الحكومات العربية يمكن أن يمثل مجرد استخدام تعبيرات مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة مشكلة كبيرة، بالنظر إلي طبيعة نظام الحكم فيها، وبالنظر أيضا إلي وجود معارضة قوية لمثل هذه الأفكار داخلها. وكما جاء في بيان تأجيل القمة الصادر عن الحكومة التونسية، فإن تونس تذرعت بالخلاف حول هذه القضية لاتخاذ قراراها بتأجيل القمة، إلا أنه من الصعب قبول الحجة التونسية، فتونس هي من أكثر الدول العربية تعرضا للانتقاد بسبب سجل حكومتها في مجالات الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان، وليس من المفهوم أن تتحول الحكومة التونسية بين ليلة وضحاها إلي بطل للدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، إلي الدرجة التي تجعلها تضحي بالقمة العربية. وبالتأكيد فإن سجل تونس في مجال حقوق المرأة هو الأفضل في العالم العربي، إلا أن هذا وحده لا يمكن اعتباره أساسا كافيا لتبوأ تونس قيادة معسكر الإصلاحيين في العالم العربي. المهم أن الإصرار التونسي علي طرح ورقتها حول الإصلاح ضمن جدول أعمال القمة والمقررات المنتظر خروجها عنها قد دفع بعض الحكام العرب لاتخاذ قرار بعدم المشاركة في أعمال القمة، تجنبا للحرج، وهو الاتجاه الذي كان قد بدأ في التبلور منذ اللحظة التي حدث فيها التراجع عن تطوير خطة السلام السعودية. وفي الساعات الأخيرة قبل انعقاد القمة كان قد أصبح واضحا أن القمة العربية لن تكون كذلك سوي بالاسم، بعد أن قرر جميع قادة دول مجلس التعاون الخليجي الستة عدم المشاركة فيها. ومن بين المتغيبين فإن اسمي ولي العهد السعودي وملك البحرين كانت لهما أهمية خاصة. فمن الناحية البروتوكولية يشغل ملك البحرين منصب رئيس الدورة الحالية للقمة العربية، وكان عليه أن يساهم في الإعداد للقمة الجديدة، كما كان عليه أن يسلم الرئاسة لتونس في الجلسة الافتتاحية للقمة المغدورة. والأرجح أن الرئيس التونسي قد أزعجه من الناحية البروتوكولية أن يتسلم القمة من غير ملك البحرين، وربما اعتبر ذلك نوعا من الإهانة. أما غياب ولي العهد السعودي الأمير عبدالله، فإنه يعني أن القمة لن تكون مكانا لاتخاذ القرارات. فالسعودية لها ثقل كبير في العالم العربي، ولدورها أهمية خاصة فيما يتعلق بملفات الإصلاح والصراع العربي الإسرائيلي، الأمر الذي يعني أن غياب الأمير عبدالله سيقلل من قدرة القمة علي اتخاذ قرارات في الملفات الساخنة المعروضة علي القمة. فإذا كان غياب قادة الخليج يقلل من قدرة القمة علي اتخاذ قرارات مطلوبة، فإن غياب قادة مغاربيين مثل إزعاجا إضافيا لتونس التي تعتبر المغرب العربي الكبير محيطها الحيوي ومجالها الطبيعي، وهي لا تريد أن يؤدي غياب القادة المغاربيين إلي إظهارها بمظهر الدولة المهمشة في إقليمها. فقد قرر العقيد القذافي عدم الحضور إلي القمة، بل ونزل بتمثيل بلاده من مستوي وزير الخارجية إلي مستوي وكيل وزارة الخارجية. وانضم الرئيس الموريتاني إلي زميله الليبي في عدم الحضور. أما الرئيس الجزائري فقد قرر أن يكتفي بالمشاركة في جانب محدود من أعمال القمة، بما قد لا يتجاوز جلسة واحدة أو جلستين. فإذا أضفت إلي كل هؤلاء المتغيبين رئيس فلسطين الممنوع من السفر، والعراق والصومال التي لم تعد دولا أصلا، وجيبوتي وجزر القمر، فإن الرئيس التونسي وجد نفسه وكأنه مطلوبا منه أن يترأس اجتماعا محسنا لوزراء الخارجية العرب، الأمر الذي يبدو أنه اعتبره غير مقبول لا سياسيا ولا بروتوكوليا، فكان القرار بتأجيل القمة. ولكن كان علي تونس أن تبحث عن مبرر لقرارها الانفرادي، فاختارت أن تدخل ساحة المزايدة، وهو تقليد عربي أصيل، فأعلنت نفسها مدافعا عن الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان العربي، وهو ما لا يبدو أن الكثيرين في العالم العربي قد صدقوه، فكانت الخسارة تونسية كما كانت عربية، وكان الجميع مسئولين عن الصدمة وخيبة الأمل التي شعر بها العرب في كل مكان.