وصفته صحيفة نيويورك تايمز قبل أعوام ب "الرجل الغامض" عندما تولي إدارة الوقف الاستثماري لجامعة هارفارد، ويعرف الآن في الأوساط المالية العالمية ب "حكيم وول ستريت"، بعد أن أبلي بلاءا حسنا في إدارة (مؤسسة بيمكو Pacific Investment Management Company (PIMCO) ) التي تعتبر من كبري شركات إدارة الأصول في العالم وتدير أصولا تزيد قيمتها علي 1.1 تريليون دولار أمريكي، أي أكبر من حجم اقتصاديات أغلب دول العالم، انه المصري- الأمريكي الدكتور محمد العريان، الذي أهلته كفاءته أن يصبح مرجعا لعدد كبير من المؤسسات المالية والصحف العالمية، والعديد من الدول. وبعيدا عن عالم المنظمات الدولية والمعامل البحثية، وبعيدا عن التخمينات حول مستقبل حكم مصر، وبعيدا عن الإخوان المسلمين واعتصامات العمال المضربين، ينظر علي العالم من مدينة نيوبورت بولاية كاليفورنيا الدكتور محمد العريان، يراقب ويبحث عما يحمله المستقبل لعالم المال والأعمال. ولا تضاهي أهمية الدكتور العريان عالميا أي شخصية مصرية أخري، ومعيار الحكم هنا هو التأثير علي مجريات الشئون الدولية المالية والتي لا يجادل احد في خطورة انعكاساتها السياسية، وخلال الأزمة المالية العالمية الأخيرة، وعندما يتحدث العريان كان العالم يتأثر وأسواقه المالية تظهر ردود أفعالها علي تصريحاته وآرائه. اختارت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما العام الماضي بيمكو لتصبح واحدة من أربع شركات إدارة أصول يتم اختيارها لإدارة برنامج مجلس الاحتياط الفيدرالي البالغ قيمته 500 مليار دولار لشراء أوراق مالية مدعومة برهون عقارية. كما تدير الشركة أيضاً برنامج الأوراق المالية التجارية البالغة قيمتها 251 مليار دولار، والتي تحافظ علي تدفق الدين قصير الأجل في الشركات الأمريكية، مما يجعلها ضرورية لانتعاش الاقتصاد. ومن حيث التأثير علي أسواق العالم، قلة هم من يملكون القوة التي يتمتع بها العريان. والكل يعرفه في اليونان الآن، حيث مع استفحال أزمة ديونها خلال الأسابيع الأخيرة، كان العريان هو أهم من تلجأ إليه وكالات رويترز وبلومبرج المتخصصة في قطاعات المال والأعمال ليوضح ما يحدث، والي أين يسير العالم. وفي عالم يختلط ويرتبط به قطاع المال والسياسة في كل الدول والقارات، لا يبدو أن الدكتور العريان معني بدرجة كبيرة بالقضايا الإقليمية، وينصب اهتمامه علي اتجاهات عالمية كونية لا يمثل فيها الشأن المصري والقضايا الشرق أوسطية إلا قليل القليل. وفي هذا الحوار مع د. محمد العريان نكشف عن الأسباب الحقيقية للأزمة المالية العالمية، وعن مصير الاتحاد النقدي الأوروبي، وعن التمويل الإسلامي والصناديق السياسة العربية وإلي أين يتجه العالم اقتصاديا. محاولة لفهم ما حدث سألنا دكتور العريان بداية عن أسباب حدوث الأزمة المالية العالمية، ومتي يمكن إعلان نهايتها؟ وجاء رده ليركز علي عدم وجود سبب وحيد لحدوث الأزمة ويري أن "هناك عدة أسباب لحدوث الأزمة المالية العالمية، إلا أن جذورها تنبع من فشل جسيم في إدارة المخاطر علي كل المستويات في المجتمعات الصناعية المتقدمة خاصة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وفقد فشل الأفراد عندما اشتروا بيوتا بأسعار تتجاوز قدرتهم علي السداد، عن طريق الحصول علي تسهيلات ائتمانية لا يفهمون طبيعتها، وفشلت البنوك عندما اشترت أصولا مسمومة، والحكومات فشلت بدورها عندما تراخت في واجباتها التنظيمية والرقابية. ويري العريان أن "الأزمة المالية الدولية مستمرة في التحور، وقد أدت إلي تسارع خطي الاقتصاد العالمي في رحلته المضطربة متعددة السنوات في اتجاه واقع عالمي جديد، ونحن نسمي هذا التحور "NEW NORMAL". وهذا الواقع الجديد يتصف تقلص النمو في المجتمعات الصناعية، وإعادة تأهيل طويل المدة للموازنات العامة، والتحول من الحرية المطلقة للأسواق لمزيد من التدخل الحكومي، وتسارع انتقال آليات نمو الاقتصاد والثروة بصورة منظمة من الدول الصناعية التقليدية إلي اقتصاديات ناشئة ذات تأثير متزايد في ظل النظام المالي العالمي، في ظل ضعف نسبي لأنظمة الحوكمة العالمية. وكان العريان قد استبعد سابقا لمجلة فورتشن حدوث أي أمور إيجابية في الوقت الراهن، وعلل ذلك بقوله ان المستهلكين يواجهون تقلبات هائلة أولها معدل البطالة المرتفع بشكل منتظم، إذ تشير الأرقام الرسمية في الولاياتالمتحدة إلي أن نسبة البطالة تصل حالياً إلي 9.6 في المائة، وأن المعيار الأكثر شمولية لقياس البطالة يصل إلي 17.5 في المائة، والمشكلة هي عند وصول الأسواق لمثل هذه المعدلات فإن سلوك الموظفين يتغير، وذلك عندما يشعرون بالخطر، فارتفاع معدل البطالة بشكل منتظم دون توقف يجعل من سلوكهم أكثر حذرا. وبالتالي يخف الاستهلاك ويبدأ حتي الموظف الذي يمتلك دخلا بالشعور بقلق كبير. ثانيا، يري العريان أن المصطلح الاقتصادي "تأثير الثروة" له دور في هذه الأزمة، فالجميع سيتضرر عند التقاعد، وهو ما سيدفع الجميع نحو الادخار والابتعاد عن الاستهلاك. الاتحاد النقدي الأوروبي بعد الأزمة المالية الأخيرة ويري العريان انه لا يوجد هناك تصور واحد مرجح لتأثير الأزمة المالية علي الاتحاد النقدي الأوروبي، بل هناك عدد كبير من السيناريوهات المحتملة، والتي كان بعضها بعيدا عن مخيلة صانعي السياسة في أوروبا حتي وقت قريب لا يتجاوز بضعة أشهر. وأكد العريان "بالفعل هناك عدد من السيناريوهات التي لم يتوقعها أحد، يتم الآن مناقشتها علنيا وتنعكس هذه المناقشات علي أسعار السوق الحالية". ومثلا من المتوقع أن تضطر أحدي دول عملة اليورو أو أكثر إلي إعادة هيكلة ديونها، بل من الممكن أن تتخلي احدي الدول عن اليورو وتنسحب من الاتحاد النقدي الأوروبي، في المقابل يمكن أن تؤدي الأزمة اتحاد مالي أكثر عمقا داخل منطقة اليورو، ومزيد من الاندماج في السيادة المالية بين الدول. ويمكن للشخص أن يتفهم القلق الذي يعاني منه المستثمرون تجاه الآثار الجانبية الضارة والتي يمكن أن تترتب علي تلوث القطاع البنكي الأوروبي، ومن ثم الاقتصاد العالمي، بتبعات أزمة الدين العام في منطقة اليورو. كذلك فلدي المستثمرين قلق من النتائج غير المقصودة التي يمكن أن تترتب علي ردود الفعل السياسية للأزمة، خاصة وأن الحكومات تميل حاليا لترجيح هدف تحقيق الاستقرار علي المدي القصير علي حساب السعي إلي نظام اقتصادي قادر علي البقاء في المدي الطويل. الصناديق السياسية واقتصاديات الشرق الأوسط يري الدكتور العريان أن اقتصاديات الشرق الأوسط، ومصر بصفة خاصة، دخلت الأزمة المالية العالمية وهي تتمتع بظروف مالية واقتصادية جيدة، بما في ذلك انخفاض حجم المديونية بالنسبة لحجم الأصول، ومن هذا المنطلق فإن المنطقة في عداد مجموعة الدول التي تخطت ظروف الاضطراب الاقتصادي الدولي بشكل جيد. ومن المهم للشرق الأوسط أن يظل يحافظ علي هذا المسار خاصة وأن الأزمة المالية تنتقل الآن من النظام المصرفي الغربي لتلوث الموازنات العامة، وتؤثر علي المخاطر السياسية للدول الصناعية. وعن صناديق الثروة السيادية العربية فهي تتمتع بمواصفات مهمة تمكنها من الإبحار في هذه الرحلة المضطربة نحو واقع اقتصادي جديد. وهذه الصناديق تحتوي علي رءوس أموال صبورة، ولها استراتيجية استثمارية طويلة المدي، وتميل بشكل متزايد للبحث عن فرص استثمارية خارج الدول الصناعية. التمويل الإسلامي وعن رأيه في التمويل الإسلامي، يري العريان أن التمويل الإسلامي أداة مهمة في حركة رأس المال نحو استخدامات منتجة، وهو يري أن هذه الممارسات المالية ستستمر في الانتشار والتزايد. وهذا النوع المهم من التمويل يتم تقويته عن طريق تدعيم بنيته التحتية. أهم نصائح العريان كتب دكتور العريان في نهاية العام الماضي مقالة في صحيفة فايننشيال تايمز عبر فيها عن إطار عمل ينصح المستثمرين فيه بوضع إطار عمل لاستثماراتهم مكون من ثلاثة أجزاء، الأول يجب علي كل مستثمر أن يضع في اعتباره توزيع الأصول بالاستناد علي خطط مستقبلية وليس خططا سابقة. ثانيا، اختيار أداة تنفيذ صحيحة لتوزيع الأصول. اذ بحسب العريان، أن أكثر ما يدهشه هو اختيار الكثير من الناس توزيع أصولهم بشكل صحيح، لكن اختيار أداة خاطئة عند التنفيذ. ثالثا، يجب أن يكون المستثمر متواضعا والإدراك جيدا أن إدارة المخاطر ليست سهلة وأن الفكرة السابقة التي تقول "إن تنويع الاستثمار كفيل بنجاحه" لم تعد صحيحة بعد الآن. ورغم أن تنويع الأصول مهم فانه ليس كافيا. وهنا علي كل مستثمر أن يسأل نفسه "ما الخسارة التي يمكن أن أتحملها في حال لم يجد التنويع نفعا؟ ويأسف العريان أن الكثير من الناس لا يسألون بما يكفي أنفسهم هذا السؤال. وللاستمرار في نهج سياسة أكثر جرأة لتعويض عدم الفعالية الاقتصادية، يتعين علي الحكومات أن تكون واضحة بشأن أربعة مبادئ: أولا: التدخل يجب أن يكون مقصورا علي قطاعات في مركز عملية التعافي، وبذلك يكمل النجاح الأخير في الأسواق التجارية وأسواق النقد مع التطبيع التدريجي لقطاعي الإسكان والمال. ثانيا: ينبغي علي الحكومات، حيثما كانت، أن تشارك القطاع الخاص، في معظم الحالات، في استثمارات مشتركة طوعية، لكن في بعض الحالات (كما هو الحال في صناعة السيارات الأمريكية) قد يتطلب الأمر مشاركة منسقة للأعباء بين المساهمين. ثالثا: ينبغي أن يطبقوا آليات خروج صريحة. رابعا وأخيرا: ينبغي ألا يدعوا الأفضل ليكون عدو الخير، فإدارة الأزمة تؤدي حتما إلي تباينات يجب أن يعالجها جهد إصلاح وتسوية لاحق. مفهوم النيو نورمال NEW NORMAL في الاجتماع السنوي الأخير لمؤسسة بيمكو، تحدث العريان عن مفهوم جديد أطلق عليه "بيو نورمال New Normal " و,وهو عبارة عن تفسير لانتهاء عالم قديم وبدء مرحلة جديدة من النظام المالي العالمي تقوم علي أسس ومبادئ مختلفة. ويتمحور هذا العالم حول ضرورة التخلص من الرؤية التقليدية التي حكمت عالم المال والاقتصاد أساسا (وإلي حد كبير) عالم السياسة أيضا، وخلاصتها أن القوي التقليدية المالية والسياسية، الولاياتالمتحدة واليابان وألمانيا، لم تعد تتحكم وحدها خلال السنوات الأخيرة في مصير العالم، فهناك حقائق وواقع جديد يتمثل في زيادة نصيب ونفوذ دول وأسواق جديدة يمكن أن نطلق عليها "الأسواق الناشئة emerging economies" بقيادة الصين وتضم بين أعضائها الهند والبرازيل وروسيا، وإلي حد كبير جنوب أفريقيا وتركيا والمكسيك والأرجنتين. وضمن هذه الحقائق الجديدة نري عالما يوفر فيه القطاع العام خدمات ومنتجات كثيرة يملكها القطاع الخاص، أو عالما يتحول فيه القطاع خاص من توفير خدمات عامة إلي عالم يوفر فيه القطاع العام خدمات خاصة). والعالم الجديد يصعب فيه علي البنوك المركزية التدخل كما حدث خلال الأزمة المالية الأخيرة للقيام بما يشبه الجراحات العاجلة. وخلال العالم الجديد سيصعب الحفاظ علي معدلات النمو التي شاهدها العالم مؤخرا، فمع التدخلات الحكومية الأخيرة في أعقاب الأزمة المالية، وزيادة الضرائب والتشريعات الكثيرة ستكون عوامل من التي تصعب من تحقيق معدلات نمو كبيرة، وسترتفع معدلات البطالة الحالية. وذكر العريان أن الاقتصاديات العشرين الأكبر في العالم G-20 ، لا تستطيع أن تحقق تقدما حقيقيا في التنسيق فيما بينها بخصوص السياسات الاقتصادية العالمية. وأكد العريان انه في الوقت الذي يجيء موضوع الإصلاح المالي علي رأس أولويات قادة الدول العشرين، إلا أن هناك الكثير من التباين فيما بينهم فيما يتعلق بسبل الإصلاح. عن "تقرير واشنطن"