السجن تجربة مثيرة وهي أيضا تجربة مفيدة بشرط ان تكون قصيرة وألا تطول أكثر من اللازم، والحقيقة ان السجن مثل المرض أو الموت يقع قهرا وتسيره الأقدار وليس لأحد يد في أن يتعرض لهذه التجربة أو يتجنبها بالتأكيد من يقدم علي ارتكاب جريمة أو مخالفة للقانون يكون في ذهنه بأن يخاطر بأن يتعرض للسجن، وكان كما يقول المثل المصري "ياما في السجن مظاليم" وأيضا فإن القرآن الكريم يضرب مثلا أكيداً علي أن السجن يكون أحياناً مثوي للأبرياء بل الأنبياء بل قد يكون في بعض الحالات بداية للتمكين في الأرض مثل الذي حدث مع النبي يوسف عليه السلام عندما دخل عبداً رقيقا مملوكاً وخرج منه أميناً علي خزائن الأرض ثم تزوج عليه السلام المرأة التي كانت سبباً في سجنه. وفي ليلة حيث تلقيت مكالمة هاتفية بأن نيابة أمن الدولة تطلبني للتحقيق وكان ذلك في صيف 2001 بداية تفجر قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم ومركز ابن خلدون، في نفس صباح اليوم التالي كنت في النيابة وفي الليلة نفسها وجدتني سجيناً علي ذمة قضية مركز ابن خلدون الشهيرة ولكن التجربة المفيدة التي يجب ان تسجل هي تجربة السجن وهي تجربة كلما مرت عليها السنوات كلما نضجت بل أني ازعم ان نزلاء السجون السابقين هم اشخاص أكثر حكمة وقدرة علي تعقل الأمور إن لم تكن تجربة سجنهم علي خلفية إجرامية وكانت لسبب عابر من الاسباب التي لا يمكن حصرها في الدول التي تفتقر لمعايير إنسانية للعدالة. الليلة والنهار الأول لي في السجن كانت أطول ليلة ونهار يمران علي في حياتي، وهما الليلة والنهار اللذان قضيتهما في زنزانة الحبس الانفرادي عوضا عن زنزانة الاستقبال الذي يرد إليها النزلاء الجدد. وفي السجون المصرية 3 أصناف من الزنازين الرهيبة التي يكفي ترديد اسمها بين السجناء لقمع أي نية تمرد يفكر فيه أحدهم، الزنزانة الأولي هي زنزانة التأديب، ولا تزال اللافتة المعلقة علي بابها حتي الآن مكتوبة باللغة التركية وبحروف عربية بعبارة "عنبر تأديب عقابي" والزنزانة الثانية تعرف باسم الثلاجة والثالثة هي الحبس الانفرادي والأخيرة تشبه القبر عبارة عن غرفة لايزيد عرضها علي متر واحد وطولها عن مترين وسبعين سنتميترا تقريبا يعلوها قرب السقف فتحة تدخل سموم الشتاء ولهيب الصيف وأسفل بابها فتحة شديدة تشبه العين السحرية فتحتها من الخارج لتشعر السجين علي الدوام انه مراقب وانه محروم من الخصوصية وان في وسع السجان انتهاك حرمته الشخصية في أي وقت طالما كان قابعاً في هذه الزنزانة. أما الثلاجة فهي زنزانة جميع ارضيتها وجدرانها من القيشان الصحي ويترك فيها السجين تحت الطلب إما في انتظار زيارة أو بدون سبب فقط ليشعر بالاستلاب؟ وبأنه لاقيمة له حتي ولو لم يرتكب خطأ من أي نوع. والوقت في الزنزانة الانفرادية لا يمر تقريبا، وللوهلة الأولي شعرت اني ميت لامحالة في هذه الزنزانة خاصة وان كل مافيها يوحي بالعدم لا فرش سوي بطانية قديمة مفردة والمياه يتم التحكم فيها مركزياً ولا تفتح في الزنازين إلا أوقات محدودة خلال النهار. وفي الزنزانة الانفرادية لا تملك إلا خيارين الأول أن تصبر وتحاول شغل نفسك بأي شيء حتي ولو بسيط والثاني أن تفقد عقلك، والساعة الأولي لي في الزنزانة الانفرادية مرت بصعوبة بالغة، أما الساعة الثانية فلم تمر لأني فقدت وعي من فرط شعوري بالصدمة والضياع لاصحو في اليوم التالي علي أشعة شمس شهر يوليو التي اقتحمت علي الزنزانة من النافذة أعلي الحائط، وأشعر بالجوع فأجد سجيناً يقوم بمهام توزيع الطعام علي الزنازين فمرر لي من الفتحة المستطيلة أسفل باب الزنزانة علبة حلاوة صغيرة وبيضتين اثنتين، وقبل ان أمسك بهما نبهني الرجل إلي أن البيض نيئ فسألته في دهشة ماذا افعل به.. وتبعت السؤال بعبارة ساخرة قائلا: هل أنا دجاج أجلس عليه مثلاً فيفقس كتاكيت؟ فعاجلني الرجل بإجابة أكثر الظن انها كانت جاهزة بأن طلب مني أن ابادله البيض بسجائر، البيضة تساوي سيجارة وأحدة، وعندما قلت له أني لا أدخن أخذ البيض بدون مقابل وهو الدرس الأول الذي تعلمته في الزنزانة الانفرادية وهي آن السجائر هي العملة الصعبة المعترف بها في السجون بدلاً من النقود. وفي الزنزانة الانفرادية اسعفتني الذاكرة بفيلم أمريكي عن مسجون قضي عشرات السنين في الحبس الانفرادي ولم يكن في وسعه التواصل مع أي كائن حي سوي عنكبوت عقد معه صداقة طويلة فكان يسمح للسجين الأمريكي بساعة فقط يتريض فيها كل يوم.. تفاصيل الفيلم تواردت علي خاطري فأصبت برعب من أن القي مصير السجين الأمريكي خاصة ان ذاكرتي مليئة بقصص عن اناس منسيين في السجون العربية من المحيط الهادي إلي الخليج الثائر تلفت حولي فوجدت عبارات مكتوبة علي الحوائط بعضها بآثار دماء منها مسجون يخاطب والدته قائلاً: "أمي جعلوا السلام عليكي حراماً" اصابني غم شديد لكن قلت لنفسي طالما ان هناك من دخل هذه الزنزانة وخرج حتي ولو إلي القبر فسأخرج أنا الآخر.