لم يأت الحفل الأخير الذي نظمته رابطة الصحافة الأجنبية المنظمة ووزعت فيه جوائزها السنوية ال67، والمعروفة باسم "الجولدن جلوب"، والتي يدرك كل عاشق للسينما ، وليس فقط المتخصصون فيها والعاملون بها، مدي أهميتها ، وما تحمله من إيحاءات تكفي للتنبؤ بما ستنتهي إليه جوائز الأكاديمية الأمريكية لعلوم وفنون السينما ، والمعروفة باسم "الأوسكار"، مبهراً من حيث الشكل أو انسانياً من منطلق الرسالة التي وجهها نجومه، والتي دعوا فيها لإغاثة منكوبي زلزال هاييتي، بل اكتسبت المناسبة قيمة عظيمة وأهمية كبيرة لكونها كشفت عن مجموعة من المؤشرات التي ينبغي أن تكون محل اعتبار ودراسة المهتمين بصناعة السينما المصرية . أول المؤشرات تتمثل في الحرص الذي أبداه النجوم علي حضور الحفل بشكل يؤكد حالة الزهو والفخار التي تتملك كل واحد منهم تجاه هذه الصناعة التي ينتمون إليها، واستعدادهم لدعمها بكل السبل، ولو بالمشاركة في حفل أكبر الظن أن عدداً غير قليل منهم يذهب إليه، وهو يعلم علم اليقين أنه لن يحصل خلاله علي أية جائزة، لكنهم لبوا الدعوة، وقهروا المطر الغزير الذي كان ينهمر بشدة، واقتطعوا من أوقاتهم الثمينة، ليشاركوا زملاءهم فرحتهم، كما حدث مع المخرج روبرت دي نيرو والنجوم : صوفيا لورين، ميل جيبسون ، هاريسون فورد، جوليا روبرتس، ليوناردو دي كابريو ، توم هانكس ، جودي فوستر، كاميرون دياز، جنيفر أنيستون، شير، كولين فاريل، هال بيري، كيت وينسلت، كيت هدسون، صامويل لي جاكسون، نيكول كيدمان، أشتون كوتشر، بول ماكارتني، ميكي رورك، أرنولد شوارزنجر، كيفر سازرلاند وريز ويزرسبوون، وهي الصورة التي تتناقض تماماً مع ما نراه في مهرجاناتنا السينمائية ، سواء الدولية منها مثل "القاهرة السينمائي" و"الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة" و"الإسكندرية السينمائي" أو المحلية كالمهرجان القومي للسينما ، حيث تعاني مهرجاناتنا من تجاهل النجوم ، وازدرائهم لها، لدرجة أن الصحف والإعلام يقيمان الأفراح والليالي الملاح إذا ما ظهرت في افتتاح أو ختام إحداهن ممثلات علي شاكلة انتصار وغادة إبراهيم وهند عاكف. فمتي يتعلم نجومنا أن الصناعة التي أعطتهم الكثير، وكانت سبباً في النقلة الحياتية، والاقتصادية، التي أصبحوا عليها تحتاج منهم إلي قدر بسيط من التواضع ، ومساحة أكبر من حب الزملاء ؟ الأمر الثاني الذي يسترعي الانتباه ، في جوائز "الجولدن جلوب" ال 67 ، وجود فصل غريب بين الأفلام الروائية الطويلة، فهناك جائزة للفيلم الدرامي وأخري للفيلم الكوميدي أو الموسيقي، وهو الفصل المتعسف والعجيب الذي يبدو أنه كان سبباً في شعور اللجنة المنظمة بتأنيب الضمير لأن جائزة التمثيل الأولي رجال ذهبت إلي جيف بريدجز عن دوره في فيلم "قلب مجنون" فما كان منها سوي أن منحت روبرت داوني جونيور جائزة أفضل ممثل عن "شيرلوك هولمز" بعد تصنيفه ضمن طائفة الفيلم الكوميدي والموسيقي ، وهو ليس بهذا ولا ذاك(!) أما الأمر الثالث الذي كشفت عنه الجوائز ، وبدا وكأنه درس ثمين أو رسالة لمن يهمه الأمر، أن الإبداع يفرض نفسه، من دون حاجة إلي وساطة أو مجاملة من جانب لجان التحكيم والاختيار، أو اضطرار جمعية إلي بيع جوائزها، أو لجوء نجمة إلي شراء هذه الجوائز، طمعاً في رفع أسهمها؛ففي ظل منافسة أقل ما توصف به أنها شرسة وضارية، وأفلام بلغت من القيمة الفنية، والرؤية الفكرية، المدي الذي سيجعلها تتحول حتماً، ومع مرور الزمن، إلي"كلاسيكيات" أو "تحف سينمائية" علي أقل الفروض، جاء فوز فيلم "أفاتار" بجائزة "الجولدن جلوب" كأحسن فيلم ، بالإضافة إلي جائزة أخري لمخرجه جيمس كاميرون الذي اختير كأحسن مخرج ، ليؤكد أن الإبداع لابد أن يجد لنفسه مكاناً في الصدارة ، وأن يتربع فوق القمة بجدارة، فالمخرج الذي ظل متشبثاً بحلمه ما يقرب من 15 سنة حتي يحققه، وبالشكل الذي يريد، وبالامكانات التي كان يبحث عنها، لابد أن يكون "عبقرياً" وفناناً حقيقياً يعطي المثال والقدوة للمبدع الذي لا يتنازل ولا يفرط ، والذي يؤمن أن"الحلم لا يموت إلا مع موت صاحبه". أما فيلم "أفاتار" فيقدم مفهوماً جديداً وجميلاً ومهماً لسينما الخيال العلمي، التي يمكن أن تصبح، إذا اقتضي الأمر، لسان حال الواقع الراهن، كما فعل جيمس كاميرون في فيلم "أفاتار" ، الذي لم يكن مجرد رحلة إلي المستقبل (عام 2154)، فالأحداث ، الناجمة عن رغبة شركة عابرة للكواكب في العثور علي مصدر بديل للطاقة ووجدت ضالتها في كوكب (Pandora ) الذي يعيش علي بحيرة من مادة "انوبتانيوم" التي لا يقل سعر الكيلو منها عن 25 مليون دولار، تحمل إسقاطات علي الواقع بدرجة لم تستطع التقنية العالية ، واللغة السينمائية الرفيعة، وهذا القدر الهائل من الابهار في التعتيم عليها، فالشركة التي تضم مجموعة من المرتزقة ، علي رأسهم "الكولونيل كوراتش" ستيفن لانج تُحيلك فوراً إلي الشركة الأمنية الأمريكية الخاصة "بلاك ووترز" التي تسللت إلي العراق وأفغانستان، في إطار علاقتها الوطيدة بجناح اليمين السياسي في أمريكا ، وارتكبت جرائم ضد الإنسانية تحت ستار "الحرب علي الإرهاب"، وهي نفسها التي وصفها الكاتب الصحفي الأمريكي جيرمي سكاهيل بأنها أقوي جيش مرتزقة في العالم ، بينما وصفهم "كاميرون" في فيلمه ب"كلاب الجيش" وفي موضع آخر ب "المرتزقة". أما شن الحرب البربرية والعدوان الهمجي علي أي شعب يمتلك ثروات طبيعية، والتي عبر عنها المخرج، وهو نفسه كاتب سيناريو الفيلم، بجملة الحوار ذات المغزي " كل من يملك شيئاً ليس بحوزتنا هو عدو لنا"، فهي نفسها النظرية التي قادت أمريكا إلي توريط نفسها في مستنقع العراق، وافغانستان من قبل بحجة "مواجهة الإرهاب بالإرهاب" جملة أخري بالنص علي لسان "الكولونيل" وهي الحرب نفسها التي تجعل أمريكا لا تلقي بالاً لمقدسات فتدمرها، وبشر فتلجأ إلي ابادته بقنابل الغاز، وقاذفات اللهب (مشاهد حية في الفيلم) وقبل هذا تدفعها عنصريتها إلي وصف الشعوب ب "الهمج" و"المتخلفين" ، فالمستقبل لم يحل دون تقديم رؤية سياسية تقدمية، واختيار سينما الخيال العلمي جعلنا بمواجهة مُبدع لديه رؤية مستنيرة، ولم يكتف أبداً بعقله المحدود أو الامكانات الضيقة للواقع، وإنما راح يطلق خياله العنان بشكل غير مسبوق عندما دمج التمثيل البشري الواقعي، بالمجسدات التي تقدم كوكب "باندورا"وشعب "النافي" ، في سينما ثلاثية الأبعاد، تختلف عن تلك التي رأيناها في فيلم "ترنيمة عيد الميلاد"، كما وظف "الجرافيك" بشكل يجعلك تشعر وكأنك حيال "لعبة" من ألعاب "البلاي ستيشن"، ووسط حالة الإبهار الرائع التي أشاعها في الأجواء راح يبث مجموعة من القيم الروحانية والأفكار الإيمانية ، وأيضاً الرسائل الإنسانية، كما طالبنا بأن "نري" بنعني أن ننفد إلي جوهر الأشياء ولا نكتفي بالسطحي منها . وقد يكون صحيحاً أن "الحدوتة" كانت أسوأ ما في فيلم "افاتار" إلا أن شيئاً لم يقلل من أهمية التجربة المغامرة التي خلق "كاميرون" من خلالها عالمه الخاص المبهر الذي انطلق إليه من خيال خصب، ومؤثرات بصرية مدهشة، كما يحسب له إنجازه السينمائي الخلاق ، الذي جمع فيه بين فنون المحاكاة وتوظيف المؤثرات الرقمية والتمثيل الحي ، حتي لو جاء إنجازه البصري علي حساب السرد القصصي التقليدي، فالفيلم يمثل بحق قفزة إلي الإمام في صناعة سينما الخيال العلمي، بل يمكن القول ، ومن دون مبالغة، إنه قاد انقلابا في هذا الاتجاه، عندما جعل المستحيل ممكناً ، ومزج "الميثولوجي" الأسطورة بالخيال والرمز والغيبيات والروحانيات والسياسة، والدعوة للحفاظ علي البيئة من الدمار الذي ينتظرها علي يد أصحاب المصلحة الاقتصادية، وبنفس درجة الإبداع نجح جيمس كاميرون في توظيف الموسيقي التصويرية، التي صاغها المؤلف الموسيقي جيمس هورنر ، في ثالث تعاون بينه وبين "كاميرون"، والتي استعان فيها بالفنانة واندا برايانت المتخصصة في موسيقي الشعوب ، فنجح الثنائي المبدع في صبغ أحداث الفيلم بمسحة روحانية وجدت لنفسها مكاناً في مشاهد الصلاة الجماعية أو القداس علي أرواح قتلي المذبحة الأمريكية، وطوال أحداث الفيلم تتنوع الموسيقي بين الموسيقي الخالصة، وتوظيف الأصوات التي تتحول إلي أنات أو نواح لتعكس حالة الحزن أو البحث عن وسيلة للخلاص من المأساة ، في صورة بدت أقرب إلي ما يفعله أهل الطرق الصوفية في مجالسهم .وفي السياق ذاته جاءت أغنية الفيلم "أنا أراك"، التي أدتها الإنجليزية ليونا لويس لتصب في المعني نفسه الذي يتبناه الفيلم الذي علمنا الكثير عندما طالبنا بالحفاظ علي الطبيعة من غطرسة القوة والجهل والنزعات الاستعمارية البغيضة، وأكد، بوعي واضح وجرأة بالغة من مخرج أمريكي، "شرعية المقاومة كسلاح وسبيل في دحر العدو وأي قوة احتلال"، وانحاز للتشبث بالعقيدة كأساس للاستقرار الروحي ، فالانتصار الذي تحقق في النهاية جاء بفضل إيمان بطل الفيلم سام ورثينجتون وابتهاله للآلهة أو الروح المقدسة ، التي استجابت .. ولم يكن غريباً والوضع هكذا أن يمرر الفيلم مجموعة من الرسائل والقيم كما في قوله :"الإنسان يولد مرتين، الأولي عندما يخرج إلي الحياة، والثانية عندما يحقق مكانة ومكاناً بين الناس".. وقوله :"الثروة ليست تحت الأرض بل حولنا"... وعليك "أن تري". من هنا كانت حفاوتنا الكبيرة بجائزتي "الجولدن جلوب" اللتين حصل عليهما فيلم "أفاتار" ومخرجه، لأنهما أغلقا الباب أمام التكهنات التي كانت تقول أن مقولات الفيلم ورسائله ستمثل خطراً كبيراً عليه ، وصاحبه، وربما تحرمه من تقدير يستحقه، وجوائز هو أجدر بها، وجاءت "الجولدن جلوب" لتؤكد أنها مجرد ترهات وتخوفات وأوهام لا تصدر سوي عن عقلية عربية أفرزتها مجتمعات تحكمها النظم الدكتاتورية والشمولية، وتسيطر عليها مشاعر الخوف والقهر، ولا تعرف طريقاً للتسامح وقبول الرأي الآخر. فاز فيلم "أفاتار" بجائزة أحسن فيلم وفاز مخرجه ، بالتبعية، بجائزة أحسن مخرج لأن الفيلم الذي يجمع كل عناصر الإبداع والتفوق لابد أن وراءه مخرج يقظ ومبدع بمعني الكلمة، وهي النقطة التي لا تعرفها بعض لجان التحكيم لدينا عندما تختار فيلماً لتمنحه جائزة الأفضل في الوقت الذي تتجاهل مخرجه، وكأن الفيلم صنع نفسه بنفسه أو صنعه "اللهو الخفي".. وهو الدرس الأخير من بين الدروس الكثيرة التي تعلمناها من "الجولدن جلوب".